كتبت: نورهان زكريا
تحدثنا في مقال سابق عن كُليب بن ربيعة وعن حياته ومقتله على يد جساس بن مُرّة، وبسببه قامت حرب البسوس واستمرت أربعين عامًا، وفي هذا المقال نتحدث عن الزير سالم شقيق المقتول وابن عم القاتل وكيف أخذ بثأر أخيه.
نسب الزير سالم ونشأته
هو أبو لَيلى المُهَلْهِل عَدِّيّ بْن رَبِيْعَةٍ بْن الحَارِثِ التَّغْلِبِي، وهو شاعر عربي لقب بالمهلهل، لأنه أول من هلهل نسج الشعر، أي "رققه". عكف في صِباه على اللهو والتشبيب بالنساء، فسُمي بـ(زير النساء) أي جليسهن. ولُقب بأبو ليلى، حيث رأى في صغره رؤيا أنه ينجب فيها فتاة واسمها ليلى وأن لها شأن عظيم، فلما أنجب أسمى فتاته بذاك الاسم.
خوف الجليلة من الزير
كانت الجليلة تخاف من شقيق زوجها لأنها كانت تُنجب بنات ولم تُنجب لكُليب ولدًا يرثه فحاكت للزير سالم المكائد حتى تبعده عن كُليب، حيث ادّعت أنه أراد منها السوء والفضيحة لها، فضربه كُليب وجره من وسط النساء وألقى به في الصحراء ليرعى فيها.
ولكن هذا لا يكفي بالنسبة للجليلة، وقالت لكُليب أنها سمعت عن شقيقه من بعض الرعاة مروقه وتهتكه إلى حد اللواط مع البدو والصعاليك، وهنا أشارت عليه بنفي الزير إلى وادي الأسود والنمور، فركب إليه واقتاده من قطعان البراري والقفار إلى الوادي، وما إن وطأه حتى شخر جواد كُليب ونخر، وإذا بسبع من بطن الوادي ظهر فقاتله كُليب، وأخطأه بحربته، وهجم عليه السبع لافتراسه إلى أن تقدم الزير فخلصه منه، وشق السبع بخنجره إلى نصفين، ثم أخرج قلبه وأكله، وودع أخاه مطمئنًا عليه.
لم تكتفِ الجليلة إلى هذا الحد، بل ادعت المرض ورقدت في الفراش وقالت لكُليب أنها بحاجة إلى أخاه سالم أن يأتي لها بلبن السباع بحجة أنه يقوي الأعصاب، وادعت أن الدواء وصفته لها دايتها، وأنه سيأتيها بولد لإحياء ذكرى الملك «كليب أبي اليمامة»، فيَحكم شرقًا وغربًا "من أرض الروم للكعبة دوامًا"، وهذا الطلب له مغزيين هما أنها تريد اللبن حتى تحمل بذَكر والثاني أن الزير أراد أخذ السيف معه فقالت له "ألا تستحي أن تطلب السيف وأنت بهذه الشجاعة" فذهب ومعه سكين وعصا، وهي أرادت من ذلك أن تهجم عليه السباع فلا يستطيع مقاومتهم فتأكله وبذلك تكون تخلصت منه.
ولكن حدث عكس توقع الجليلة، فقد قتل الزير السباع وأحضر معه رؤوس اثنين منهم والتف حوله الناس وأحدثوا ضجة كبيرة عندما أتى، فغضبت الجليلة غضبًا شديدًا ورغم ذلك لم تتوقف عن المكائد، وقرر الزير سالم أن يعتزل وطلب من كُليب أن يعطيه منطقة بئر سبع ويكون له صوان مازحا: "لا سيما ولي على السباع ثأر، ولا بد من قتل جميع الأسود، أو يرجع حماري ويعود"، حيث يروي أنه حارب سبعًا عند هذا البئر لأنه أكل حماره. وعلى أية حال سار الزير سالم حتى وصل إلى بئر السباع، ونصب صيوانه الذي أصبح قصرًا من جماجم الأسود، والذي كان كلَّما قتل أسدًا منهم يقول مازحًا: يا ثأرات الحمار. وكان له صديقًا وفيًا هو ابن عمه "همام" شقيق الجليلة والأمير جساس، فانعزلا في بئر سبع "هذه في فلسطين" يَشربان ويسمعان الأنغام لمدة ثلاث سنوات.
جذور الحرب وعلم الزير سالم بمقتل أخيه
كان قتل ناقة البسوس يمثل نارًا خامدة قيد الاشتعال، وأنها وفي ذات الوقت مقتل ناقة فقط، هو تعدي على صاحب الناقة نفسها؛ حيث يمثل الجمل كل شيء بالنسبة للإنسان، فإن هلك الجمل هلك صاحبه، ولذلك عُرفت هذه الحرب بحرب البسوس، والبسوس كما ذكر من قبل هي خالة الجليلة وهمام وجساس، وكانت تتمنى أن تأخذ بثأر التُبع اليماني الذي قتله كُليب يوم عُروسه على الجليلة. ووضعت المكائد والمؤامرات بين بني بكر وبني تغلب إلى أن وضع كُليب حدًا لهذه المؤامرات. وكان مقتل ناقتها الشرارة المدفونة في صدر جساس.
علم الزير سالم بما حدث بين جساس وكُليب الذي طلب منه أن يأتي من عزلته لكي يسانده ولكن الزير سالم قال له لن آتي وإذا حدث لك مكروه لن أبقي أحدًا يتنفس. جاء خبر مقتل كُليب للزير سالم عندما كان جالسًا مع همام بن مُرة وكان صديقًا مقربًا له، وتعاهدا على أن لا يخفي أحدهما عن الآخر شيئًا، وقد دخلت عليهم جارية وأخبرت همام أن شقيقه جساس قتل كُليب وأرسل والدك هذا الحصان لك لتهرب إلى اليمن.
اندهش همام من ذلك الخبر وتغيرت ملامح وجهه وسأله الزير سالم ماذا قالت لك فحاول أن يخفي عنه ولكن المهلهل ذكّره بالعهد الذي بينهما، فأخبره أن جساس قتل كُليب، ولكن لم يصدق الزير هذا الكلام ومضى في الشُرب، ولكن همام كان خائفًا مما حدث، وعندما نام الزير هرب همام إلى والده.
عندما حل صباح اليوم التالي لم يجد الزير صديقه همام، وقرر أن يعود إلى قومه ليعلم ماذا حدث، ولكنه وجد عويل النساء وتكسير الرجال لسيوفهم، في هذه اللحظة علم أن صديقه همام لم يكذب عليه.
مأساة الجليلة وعِلمها بأنها حامل
كانت الجليلة حزينة على مقتل زوجها وعلى أخيها القاتل وعندنا كانت تنوح على زوجها قالت النساء التي كانت تنوح أيضًا عليه "ابتعدي عنا فإنك شامتة، وقد حرضتِ أخاك على قتل سيدنا" بكت الجليلة منشدة معبرة عن موقفها الأصعب:
"يا ابنة الأقوام إن لمتُ فلا تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنتِ تبيَّنتِ الذي يوجب اللوم فلومي واعذلي
وإذا أختُ امرئ ليمت على شفق منها عليه فافعلي
جلَّ عندي فعل جساس بنا غمَّة للدهر ليست تَنجلي
فعلُ جسَّاس على وجدي به قاطعٌ ظهري ومُدنٍ أجلي".
ثم ذهبت وأُقامت في بيت أبيها ومع شقيقها جساس، وفي ظل العويل والبكاء والحزن علمت أنها حامل.
حزن الزير سالم وفك عُزلته
تتَّفق كل النصوص العربية الأدبية والشعبية الفولكلورية على أنَّ المهلهل "الزير سالم" ظلَّ لفترة كبيرة يُعاني التحول أو التبدل من حالة لنَقيضها، من الزير الغارق لأم رأسه في الخمر والنغم والشِعر، منعزلًا في بئر سبع، للملك الفارس المنتقم لأخيه المُغتال غيلةً بوادي الحصىٰ والجندل بالشام، وهو يطوف أطراف مُلكه وقبائله باكيًا نادبًا يَرثي أخاه ولا يفعل شيئًا سوى التحريض على القتال والوعيد، حتى سخرتْ منه بنو بكر قائلين: "إنما المهلهل نائحة ليس غير". إلى أن اقتحمت اليمامة على الزير عُزلته وأوجاعه وملاطمه بموطنه ببئر سبع، ورجعت به إلى حيث جثة كليب الغارق في دمائه بلا رأس، بعد ذلك ارتدى الزير عُدة الحرب وسار مع اليمامة وإخوته يقطعون الأرض والفلوات، إلى أن وصلوا دمشق إلى حيث كليب القتيل، وهو يبكيه: "سلامتك يا أبو اليمامة" وأنشد مرثيته الشهيرة على مرأى من الأمم والقبائل التي تبكي كليب، بعد أن أطلعته اليمامة على وصية كليب «المكتوبة على الصخر» فأنشد المهلهل:
غدرك جساس يا عزي ويا سندي وليس جساس مَنْ يَحبو ثواليها
لا أصلح الله منا مَنْ يُصالحهم حتى يُصالح ذئب المعز راعيها
وتولد البغلة الخَضرا خدالجة وأنتَ تحيا مِن الغبرا تلبيها
وتحلبُ الشاة مِن أسنانها لبنًا وتُسرع النوق لا ترعى مَراعيها.
الحرب
اجتمع الزير سالم بالأكابر والفرسان، وعاهدهم على الاستعداد لأخذ ثأر كُليب، وتحالفوا معه وعاهدوه على كرسي المملكة وبايَعوه وأجلسوه. إلى أن وصل خبرهم إلى بني بكر حتى خافوا العواقب، فجمعوا نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزلوا بمكان يدعى "الذنائب" يبعُد نحو ثلاثة أيام عن قبيلة الزير، وكان على رأسهم الأمير مُرةّ رأس البكريين ووالد جساس، والذي راعه البطل الزير سالم وجيشه فقال مأثورته: "اليوم تُباع الأرواح بيع السماح".
وعندما تلاقى الجيشان كانت حربًا فظيعة "يَشيب منها رأس الغلام قبل الفطام" كما يَذكر النص، وكان كلما قتل الزير فارسًا يقول: "يا لثارات كُليب ملك العرب". استمرت هذه الواقعة ثلاثة أشهر متَّصلة، فقتَل فيها الزير آلاف الأبطال، وغنِم أموالًا كثيرة وعاد بها إلى قصر أخيه، فاستقبلته اليمامة مرحبة ودخل كأنه أرجوان مما سال عليه من دم الفرسان.
تذكر بعض المصادر أنه عندما عاد الزير سالم من رحلة صيده الخلوية الشعرية التي يجريها بينه وبين اليمامة ابنة أخيه كليب، والتي أخبرته بسطو وسرقة خالها جساس للمُهر حين غاب الزير في صيده وقنصه عشرين يومًا، وكان أن عاود الزير نصب الكمائن، واستخدام الحيَّل، والتنكر؛ لاسترداد حصان أخيه كليب من مرابط خيل جساس، مصطنعًا هيئة سائس للخيل التي ستُلازمه على طول هذه السرية:ِ "أنا من بلاد الصعيد، ومهنتي سياسة خيل الأماجيد." فدخل لأخذ الخيل وقاتل العديد من الرجال وما إن استرد الزير حصانه وقتَل آلاف الأبطال، رجع إلى الديار بالعز والانتصار، واستقبلتْه النساء بالدفوف والمزاهر.
تجددت الحروب بين القبيلتين سنتين كاملتين، وكان الزير سالم يحصد فالنهار والليل إلى أن قطع رؤوس قتلاهم ووضعها في المخازن. ولما اشتدت على جساس وقومه الأهوال والزير يَرفض كل وساطاتهم وفديتهم لإيقاف القتال أو حتى قبول الهدنة كان الرفض شديدًا وقال الزير أنه سيُبيد قبيلة بكر كلها.
هروب جساس وقومه إلى الحبشة والسودان
حين تجددت الحرب كَسر الزير سالم أعداءه بني مُرة أشد انكسار، وعَقِب كل غزوة تلقاه «اليمامة» مع كورس نسائها سائلة: "هل أتيت برأس خالي جساس؛ حتى نخلع السواد ويطيب الفؤاد؟". أما جساس وقومه فوصل بهم الحصار والضيق إلى اجتماع شيوخ قبائلهم، وعقدوا أن يلجئوا إلى ملك الحبشة الذي يُْدَعى "الرعيني" حيث تشفَّعت الجليلة لقومها عنده، بعد أن كاد أن يَقبض على أمرائهم ويَفتك بهم؛ لأنهم من قوم قتلة خاله الملك التبَّع حسان اليماني. ولكن عندما علم الزير سالم بذلك يُقال أنه اتبعهم إلى الحبشة والبعض يقول أنهم التقوا في البصرة وقَتَل الرعيني، وأُضيف إلى ألقابه لقب «المهلهل فارس العرب والعجم».
يوم القصيبات وقتل همام
ويقال له "يوم بطن السرو" وفيه انتصرت تغلب. وفي هذا اليوم قُتِل همام بن مرة بن ذُهل الشيباني البكري بن ربيعة. وحزن عليه الزير حزنًا شديدًا وقال ما مات بعد كُليب أعز منك وهناك قول آخر أنه قُتل على يد ناشرة بن أغواث.
قتل الجساس
طلب مُرَّة بن شيبان من جساس أن يذهب إلى أخواله، لأن تغلب تطلبه أشد الطلب فألح والده مُرة أن يذهب إلى أخواله في الشام، وعلم الزير سالم بذلك فأرسل إليه أعظم رجاله وكانوا ثلاثين رجُلًا وعلى رأسهم أبو نويرة التغلبي، والتقى في إحدى الليالي جساس وأبو نويرة فقال له أبو نويرة اختر إما الصراع أو الطِعان أو المسايفة، فاختار جساس الصراع فاصطرعا وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه وطلبهما فأصابوهما وهما يصطرعان وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما.
عندما التقى أبو نويرة جساس وقت كان يتبعه بأمر الزير سالم، قتل جساس أبو نويرة وأصحابه ولم يبقي غير رجلين وجرح جساس نفسه جرحًا شديدًا فمات منه وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضًا.
وعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه، فلما سمع مُرّة عن قتل ابنه جساس قال "إنما يحزنني إن كان لم يَقتُل منهم أحدًا". فقيل له إنه قتل بيد أبا نويرة رئيس القوم وقتل معه خمسة عشر رجلًا ما شاركه منا أحد في قتلهم وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.
ولما قُتِل جساس أرسل مُرة إلى المهلهل قائلًا "إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساسًا فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم" فلم يجب إلى ذلك.
ظهور الحارب بن عُباد
كان الحارث بن عباد قد اعتزل الحرب فلم يشهدها، وقال عن الحرب "لا ناقة لي فيها ولا جمل"، ولما قُتِل جساس وهمام ابنا مُرّة حمل ابنه بجير الحارث بن عباد إلى الزير سالم، فلما حمله على الناقة كتب معه إلى المهلهل "إنك قد أسرفت في القتل وأدركت ثأرك سوى ما قتلت من بكر وقد أرسلت ابني إليك فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين وإما أطلقته وأصلحت ذات البين فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم".
فلما وقف الزير على كتابه أخذ بجيرًا فقتله وقال أنت بكُليب؟ بل بشسع نعل كليب . فلما سمع أبوه بقتله ظن أن الزير قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين فقال "نِعم القتيل قتيلا أصلح من بني وائل"، فقيل إنه قال بل بشسع نعل كليب فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال:
قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال
قربا مربط النعامة مني شاب رأسي وأنكرتني رجالي
لم أكن من جناتها علم الله وإني بحرِها اليوم صالي.
فأتوه بفرسه "النعامة" ولم يكن في زمانها مثلها فركبها وولى أمر بكر، واقسم أن ينهي على بني تغلُب ولن يبقي منهم أحدًا ولن يتوقف عن الحرب حتى تُكلمه الأرض.
وشهد حربهم وكان أول يوم شهده يوم قضة وهو يوم تحلاق اللمم وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكرًا حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضًا وقال الحارث للنساء أن يذهبن إلى الحرب ومعهم آنية من الماء وعِصِيّ لتساعد رجالنا حليقي الرؤوس وتعطيهم المياه وإذا لقوا رجالًا آخرين قتلوهم بالعصا.
اجتمعت القبائل حول الحارث، وبني تغلب التي كانت تحارب بلا سبب، حيث أخذ المهلهل بثأر أخيه فانفضت القبائل من حوله، وبالفعل نفذ الحارث قسمه وأمتلئت الأرض بجثث رجال بني تغلب، ويُقال أن رجالًا من بني تغلب حفروا سردابًا تحت الأرض في مكان ما، حيث كان يَمر عليه الحارث وذكره احد من تحت السرداب بقسمه أنه سيوقف الحرب عندما تكلمه الأرض، وتذكر الحارث هذا القسم وانتهت الحرب.
موت الزير سالم
يُقال أن الحارث بن عباد أسر المهلهل وهو لا يعرفه فقال له دلني على الزير سالم وأنا أخلي عنك. فقال المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه؟ قال الحارث: نعم، قال فأنا عُدي فجز ناصيته وتركه وقال في ذلك: لهف نفسي على عدي ولم أعرف عديا إذ أمكنتني اليدان.
وتركه يذهب إلي قومه بعد أن قُتل معظهم وكان مُصِر على الاستمرار في هذه الحرب؛ فذهب عنه الناس. وقد سافر إلى اليمن وزوَّج ابنته غصبًا وبقي هناك إلى ديار قومه فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة البكري أسيرًا بنواحي هجر فأحسن أسره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقًا للمهلهل فأهدى إليه وهو أسير زقا من خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند المهلهل في بيته الذي أفرد له عمرو.
فلما أخذ فيهم الشراب تغنى المهلهل بما كان يقوله من الشعر ينوح على أخيه كليب فسمع منه عمرو ذلك فقال إنه يريد لريان والله لا يشرب عندي ماء حتى يرِد زبيب وهو فحل كان له، لا يرد إلا خمسا في حمارة القيظ "أي يشرب الماء"، فطلب بنو مالك زبيبًا وهم يحرصون على أن لا يهلك المهلهل فلم يقدروا عليه حتى مات المهلهل عطشا.
لكن توجد رواية أخرى رجحتها الكثير من المصادر، فيبدو أن أبو ليلى المهلهل في آخر أيامه ضاق بعجزه ووحدته، فطلب من ابن أخيه الملك الجرو أو الهجرس أن «يسوح متنزهًا في البلاد»، فأعطاه الملك هودجا وعبدين يحرسانه ولوازم سفره، فخرج سائحًا، ومازال يجول في البلاد إلى أن هد كاهل عبديه وكان قد واصل بهما تجواله، فصمما على قتله ودفنه ثم يَعودان إلى أهله، ويخبرانهم بأن أبا ليلى المهلهل أدركته المنية.
ويبدو أن الزير أدرك غرضهما وما ينويان، فطلب منهما الحرص على إبلاغ أمنيته الوحيده من الشعر ووصيته إلى أهله وابن أخيه الهجرس وأخته اليمامة قائلًا:
مَن مبلغ الحيين أنَّ مهلهلًا لله درُّكما ودرُّ أبيكما
وعاهدهما فأقسما، فأنشد عليهما وكرره عليهما إلى أن دخل الليل فذبحاه ودفناه ورجعا إلى ديارهما، ودخلا على سيدهما الجرو بن كُليب واليمامة.
وما إن أنشد العبدان وصيته أو بيت شعر المهلهل الوحيد على مشهد من الملك الجرو واليمامة وعلى القوم؛ لطمت اليمامة ومزقت ثيابها صارخة بأن عمها لا يقول أبيات ناقصة أو مهلهلة، وأنه قتيل مغتال، أراد أن يقول:
مَنْ مُبلغُ الأقوام أنَّ مهلهلًا أضحى قتيلًا في الفلاة مجندلًا
لله دركما ودر أبيكما لا يَبرح العبدان حتى يُقْتَلا.
ثم أنهما قبضوا على العبدَين، ووضعوهما تحت العذاب. وكانت تلك نهاية الزير سالم الذي صورها الفولكلور العربي.