آخر الأخبار

من هم البرامكة وما حكايتهم مع هارون الرشيد

كتبت: نورهان زكريا

من هم البرامكة وما حكايتهم مع هارون الرشيد

ظهر في عهد الخليفة هارون الرشيد كثير من الفتن والثورات في المشرق والمغرب الإسلامي، كما تميزت هذه الفترة بأحداث سياسية واجتماعية غير قليلة، ولكن موضوع نكبة البرامكة بقيَ علامة بارزة فوق هذه الأحداث كلها. وسنتحدث في هذا المقال عمَّن هم البرامكة، وكيف أثَّروا على الدولة العباسية، وكيف تخلَّص منهم هارون الرشيد. 


دخول العناصر الأجنبية الدولة العباسية


تتميز الدولة العباسية بأنها أدخلت عناصر أجنبية في الحكم، حيث أدخلت في العصر العباسي الأول العنصر الفارسي، وهذا العصر يمتد من 132 هـ إلى 232 هـ، والعصر العباسي الثاني غلب عليه طابع العنصر التركي، والذي امتد من 232 هـ إلى 333 هـ، وقد عادت سلطة الفرس ونفوذهم في العصر العباسي الثالث الذي كان بين 334 عام حتى 447 هجرية، وقد شهد العصر العباسي الرابع الذي امتد من 447 هـ حتى 656 هـ عودة العنصر التركي أيضًا، ولكن بصورة أكبر، حيث سيطر الترك على الدولة العباسية، ونشأت دولة السلاجقة. ويهمّنا من دخول هذه العناصر، العنصر الفارسي. 


ما معني كلمة البرامكة


ترجع أصول هذه الأسرة إلى قبيلة الأزد العربية، ويرى بعض المؤرّخين أنها تُنسب إلى الفرس، لأن كلمة برمك تُطلق على رئيس كهنة أوسدنة، معبد قديم بالقرب من بلخ في (خراسان)، وكان هذا المعبد يُسمي "النوبهار"، وهي كلمة هندية تعني الربيع المتجدد. وربما يرجع ذلك إلى وجود أراضي خضراء كثيرة كانت تحيط به، وكان البوذيون يحجّون إلى هذا المعبد من الهند والصين وبلاد الفرس؛ لإقامة شعائر عبادتهم البوذية فيه، وكان لهذا المعبد شأن كبير، ولمن يتولى شؤونه، لذلك كانت الأسرة التي تتولى شؤونه على جانب كبير من الحظوة والأهمية، وظل هذا المعبد موجود حتى تلاشى في عهد معاوية بن أبي سفيان سنة 42 هـ.


 نشأة البرامكة في الدولة الإسلامية


عاش برمك في زمن عبد الملك بن مروان، وكان على علم بالطب والتنجيم، ويُقال إن البرامكة اعتنقوا الإسلام في زمن الدولة الأموية بعد أن فتح المسلمون أواسط آسيا، ويدلل المؤرخون على أن خالد بن برمك نشأ مسلمًا؛ لأن اسم خالد اسم عربي. وقد شارك خالد في الدعوة العباسية منذ بدايتها، فانضم إلى أبي مسلم الخراساني وحارب معه ضد الدولة الأموية حتى قامت الدولة العباسية


علاقة خالد بن برمك بالخلفاء العباسيين


استوزره الخليفة أبو العباس "السفاح" وخف على قلبه، وكان يُسمَّى وزيرًا، وقيل إن كل من استوزر بعد أبي سلمة الخلال، كان يتجنب أن يُسمَّى وزيرًا؛ تطيّرًا بما جرى على أبي سلمة. ويبدو أن خالدًا رفض اللقب هذا لأنه شؤم على صاحبه، وتمثَّل بقول الشاعر: "إن الوزير وزير آل محمد أودى فمن يشناك كان وزيرًا" وكان لخالد منزلة كبيرة عند الخلفاء، وقيل إن السفاح قال له يومًا: يا خالد، ما رضيت حتى استخدمتني! ففزع خالد وقال: كيف يا أمير المؤمنين وأنا عبدك وخادمك؟! فضحك وقال: إن ريطة ابنتي تنام مع ابنتك في مكان واحد، فأقوم بالليل أجدهما قد سرح الغطاء عنهما فأرده عليهما، فقبَّل خالد يده وقال: مولى يكتسب الأجر في عبده وأمته. ثم بعد ذلك استوزره أبو جعفر المنصور، كذلك استعمله الخليفة المهدي في قصره إلى أن تُوفي خالد بن برمك سنة 165 هـ، وتولَّى بعده ابنه يحيى. 


تولَّي يحيى بن خالد البرمكي أمور الدولة العباسية


يُعتبر يحيى واسطة عند الأسرة البرمكية وأشهر رجالها لِمَا يمتاز به من مهارة وإدارة عُرفت عند الفرس في ذلك الوقت. وقد عهد إليه المنصور بولاية آذربيجان وأرمينية سنة 158 هـ، ثم أسند إليه المهدي أمر النفقات للجنود، ثم عهد إليه بتربية ولده هارون الرشيد، فرباه أحسن تربية وزوَّده بنصائحه وإرشاداته حتى ضمن له الخلافة، وعرض نفسه للحبس والهلاك، وكان هارون يناديه يا أبي. 


مساعدة يحيى بن خالد لهارون الرشيد في تولية الخلافة


حاول الهادي أن يُولي ابنه جعفر الخلافة بدلًا من هارون الرشيد، وهذا ليس طِبق وصية المهدي، ولكن يحيى بن برمك ثبت في المحافظة على حق هارون الرشيد في تولية الخلافة، متحملًا كل مكروه سيتعرض له، وكان لبطانة الهادي أثر سيء في تشجيعه على خلع الرشيد ومبايعة جعفر، وكل ما مر به يحيى لم يزِد منه إلا حرصًا على حق الرشيد، فصار يعلله ويُسري عنه، ولولاه لخلع الرشيد نفسه بعد أن تنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لن نرضى به، وصعُب أمرهم حتى ظهر. وأمر الهادي ألا يُسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس. وعندما تولَّى هارون الرشيد الخلافة أصبح يحيى كل شيء في الدولة، فقد حفظ الرشيد له هذا الفضل، فاستوزره وزارة تفويض سنة 170 هـ، وكتب إليه: "قلَّدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وامضِ الأمور على ما ترى". ثم دفع إليه بخاتم الخلافة وبهذا التقليد حدد الرشيد لأول مرة عمل الوزير ومضمونه من حيث وزارة تنفيذ ووزارة تفويض. 


استعمل يحيى أبناءه في أمور الدولة


قام يحيى بتصريف الأمور على خير وجه، حيث ورث ذلك عن أجداده الذين كانت لهم كتب قديمة على عهد الساسانيين في الوزارة وأصولها، بينما انصرف الرشيد إلى الاستمتاع بالحياة ومسراتها. استعان يحيى في أمور الدولة بأولاده وكانوا على نمط من الذكاء والحصانة، فعهد إلى ابنه الأكبر (الفضل) الذي وُلد قبل الرشيد بسبعة أيام وأرضعته الخيزران مع الرشيد بولاية المشرق، خراسان وطبرستان وآذربيجان وأرمينية، وجهز له جيشًا، كل جنوده من خراسان، وكان عدده 500 ألف سمَّاهم العباسية، وقد شُهر عنه أنه كان كريمًا كثير الهبة للشعراء، مثل الأصمعي وأبي نواس، غير أنه كان يعيبه شيء من العنف والكبرياء، كذلك عيَّن يحيى ابنه جعفر على ولاية الجزيرة والشام ومصر وما يليها غربًا. وتمكَّن جعفر بذكائه ودهائه من ضبط وتصريف شؤون هذه البلاد بطريقة ممتازة، وقد اشتُهر جعفر بخفة الروح والظرف، إلى جانب الفصاحة والبلاغة، مما جعله مُحببًا عند الرشيد، فاستبقاه إلى جواره في بغداد. 


سيطرة البرامكة على الدولة العباسية


سيطرت أسرة البرامكة على دولة الرشيد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وأصبحت دولة عباسية اسمًا ومظهرًا، وبرمكية حقيقة ومخبرًا، حتى وصل الأمر إلى إطلاق بعض المؤرخين عليها دولة البرامكة؛ لأنهم لم يتركوا ناحية من نواحي الحياة الإدارية والعسكرية والمالية والعلمية إلا وباشروها وشملوها بعطفهم، فمالت إليهم نفوس الناس وأحبوهم، ومدحهم الشعراء بما لم يمدحوا به الخلفاء، مثل قول أبي نواس فيهم: "سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم بني برمك من رائحين وغادي" إلي جانب ذلك خصَّص البرامكة أنفسهم بمجالس سمر وغناء على غرار مجالس الرشيد، ومن أشهر مغنيهم " دنانير" وإسحاق الموصلي، وكان البرامكة يُغدقون على هؤلاء الفنانين والعلماء بالعطايا والهبات بشكل لم يُسمع به من قبل في تاريخ الدولة الإسلامية، ووصل تكريمهم للعلماء أنهم كانوا يحملون إليهم العطايا والهبات بأنفسهم. 


قصد الناس قصر يحيى البرمكي


ومن المواقف التي تدل على أن الرشيد فاض منهم، وقد رواه صاحب الفخري، حيث رُوي أن الطبيب دخل ذات يوم على الرشيد وكان جالسًا في قصر الخلد في بغداد، وكان البرامكة يسكنون في مواجهته على الضفة الأخرى من نهر دجلة، فرأى الرشيد كثرة الخيل وازدحام الناس على باب يحيى البرمكي، فقال الرشيد للطبيب "جزى الله يحيى خيرًا، تصدَّى للأمور وأراحني من الكد، ووفَّر أوقاتي على اللذة". وبعد مدة من الزمن بدأ الرشيد يعرض عنهم، وحدث ذلك الموقف مرة أخرى، حيث دخل عليه الطبيب ونظر الرشيد صوب البرامكة، فرأى مثلما رآه في المرة السابقة فقال: "استبدَّ يحيى بالأمور بدوني، فالخلافة في الحقيقة له، وليس لي منها إلا اسمها". وقد سيطر البرامكة على الأموال، وكانوا يُنفقون منها ببذخ وإسراف حيثما شاءوا، وكانوا يقترون على الرشيد فيما يطلبه من أموال، فكان يطلب منهم اليسير منه، فلا يصل إليه، فظن أن الأمر يكاد يخرج من يده، فنقم على البرامكة، وقد قُدّرت أموال يحيى وجعفر في آخر أيامهما، فبلغت عشرين مليونًا. وقد روى الطبري أن جبريل والد الطبيب بختيشوع كان عند الرشيد ذات يوم، ودخل يحيى البرمكي عليه دون إذن، فامتعض الرشيد، ووجَّه حديثه إلى جبريل الذي أنكر هذا الصنيع، وفهم يحيى وأخذ يعتذر، وأبان أن الرشيد هو الذي منحه هذه الميزة من قبل، وفهم يحيى أن الرشيد بدأ يتغير على البرامكة. 


حد الرشيد من نفوذ البرامكة


استغل البرامكة ما وصلوا إليه من نفوذ وحظوة، وأخذوا يتصرفون في شؤون الدولة كما لو كانوا هم أصحابها، وأصبح الرشيد مغلول اليدين، ضعيف النفوذ بالنسبة لما كانوا يوزّعونه من أموال على أتباعهم وأنصارهم، ومعظمهم من الفرس، وقد عبَّر الرشيد عن نفوذهم هذا بقوله "ما عد البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم، وإنهم هم الدولة، وإنه لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أنعموا عليهم بها". بدأ الرشيد يحدّ نفوذهم، فقام بعزل محمد بن خالد البرمكي عن الحجابة سنة 179 هـ، وقلَّدها لرجل من العنصر العربي هو الفضل بن الربيع، كما نحَّى الفضل بن يحيى عن مسؤولياته سنة 183 هـ، وأسندها إلى عيسى بن ماهان، ثم سحب الإشراف على الحرس من جعفر بن يحيى، وكلَّف به هرثمة بن أعين، وبدأ في الإعراض والابتعاد عنهم تدريجيًّا حتى لا يشعروا بما أضمره لهم، ومن الطبيعي أن الرشيد لجأ إلى هذا الأسلوب بعدما أصبح مركزه كخليفة للمسلمين عند الناس لا يُذكر، والناس لا يقصدون إلا أبوابهم. 


قصة العباسة أخت الرشيد


ذكرت بعض المراجع العربية أن سبب نكبة البرامكة هي قصة مزعومة ومنحولة، والقصة عبارة عن أن الرشيد كان يحب مجالسة أخته العباسة لأنها كانت على قدر كبير من الثقافة والذكاء النادر، وكان يحرص على أن تكون العباسة موجودة في مجالسه الأدبية، وفي الوقت نفسه يحرص على حضور جعفر البرمكي هذه المجالس لما تتميز بها أيضًا من ثقافة وعلم وملاحة الحديث، ولكي يجمع الرشيد العباسة في هذه المجالس رأى أن يعقد على أخته بجعفر البرمكي، بشرط عدم حدوث خلوة حتى يكون العقد صوريًّا فقط، لإسقاط وجه الحرمة من اجتماع العباسة مع غريب عنها، ولكن حدث أن جعفر استعمل حقّه الطبيعي بالعقد، واتصل سرًّا بالعباسة، ونتج عن هذا اللقاء السري أن وضعت العباسة طفلًا أرسلته بعد الولادة إلى الحجاز خوفًا من أخيها الرشيد. غير أن أحد الجاريات أفصحت للرشيد بما حدث، وذهب بنفسه إلى الحجاز وتأكَّد من صحة هذا الكلام، وكان هذا سبب نكبة البرامكة


طعن الشعوبية في الجنس العربي


ليس هناك أدنى شك أن هذه القصة مزعومة ومن نسج الخيال، وكان للشعوبية دور كبير في اختراعها؛ فالشعوبية حركة سياسية أدبية كان هدفها الأول الطعن في الجنس العربي، والحط من شأنه وإعلاء شأن العجم (الفرس). ولا شك أن الرشيد لا يمكن أن يُقدم على فعل هذا العمل المُزري ويزوّج أخته سليلة المجد والشرف والدين هذا الزواج الصوري الذي يسبب له الطعن في رجولته وشرفه وكرامته. 


بطلان هذه القصة


قد دلّل ابن خلدون على بطلان هذه القصة، حيث ذكر عن العباسة أنها (قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين، بعيدة عن عوائد الترف وموقع الفواحش. فأين يُطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها؟ أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقدوا بيتها؟ أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنّس شرفها العربي بمولى من موالي العجم؟).


التخلُّص من البرامكة


لم يكُن سبب نكبة البرامكة هو القصة المزعومة بين أخت الرشيد وجعفر البرمكي، ولكن بسبب تدخّلهم الزائد في شؤون الدولة وأموال الرشيد، لهذا لجأ الرشيد إلى عامل المفاجأة في نكبة البرامكة ممن مالوا إلى الزندقة، فدبَّر لهم خطة مُحكمة حتى لا يهرب منهم أحد، فأعطى أوامره ليلة السبت غرة صفر سنة 187 هـ. إلى بعض حرسه الخاص بالقبض على البرامكة جميعًا، وهدد بقتل كل من يأويهم، ونجحت الخطة، وقبض على يحيى بن خالد وجميع ولده وخاصته وأتباعه، ثم بعث الرشيد ببعض رجاله إلى منازلهم، ليتحفَّظوا على أموالهم، وكانت كثيرة جدًّا، كما أوعز الرشيد إلى خادمه وحرسه الخاص مسرور بقتل جعفر بن يحيى والعودة برأسه، واضطر مسرور إلى تنفيذ تعليمات الرشيد، ونكَّل بجثته، فقيل إنه صلبها على أحد الجسور، وقيل بل مزّقها وأحرقها. ثم أمر الرشيد بعد ذلك بقتل جماعة من البرامكة، ولكنه استبقى يحيى البرمكي في حبسه، وحبس معه جاريته ومغنيته دنانير لتقوم على خدمته؛ لأنه كان شيخًا مُسنًّا، ويُقال إنه أفرج عنه وعنها بعد ذلك لأن يحيى تُوفي بالرقة في محرم سنة 190 هـ. أما الفضل بن يحيى فقد ضُرب بالسوط ليُقر على الأموال التي أخفاها، وقد تُوفي بعد النكبة بخمس سنوات في السجن. أما محمد بن خالد البرمكي -أخو يحيى-، فلم يُصبه من النكبة شيئًا؛ لأنه كان بعيدًا عن مساويهم. وبالرغم من ذلك، سمح الرشيد للشعراء أن يقولوا الرثاء للبرامكة. 


وهكذا انتهى نفوذ البرامكة الذي استمر في دولة الرشيد سبع عشرة سنة وسبعة أشهر، وأخذ الرشيد يتولَّى أمور الدولة بنفسه.

العهد نيوز - al3hd news
العهد نيوز - al3hd news
تعليقات