كتبت: شان مسلم
يُعَد لي كوان يو أحد أعظم القادة الذين مروا على قارة آسيا والعالم أجمع، والذي كتب تاريخًا جديدًا لبلاده، ونهض بدولته من براثن الاستعمار والاضمحلال إلى مصافِّ الدول المتقدمة، والتي أصبحت نموذجًا يُحتذى به في العالم أجمع.
نشأة المُستبد العادل
وُلد لي كوان يو في 16 سبتمبر/أيلول 1923 بسنغافورة، ونشأ وسط أسرة صينية استقرَّت بسنغافورة في القرن الـ 19، ونشأ في بيئة متواضعة، وتلقَّى تعليمه في مدارس محلية قبل أن يحصل على منحة للدراسة في جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، وكان دائمًا يحتل المراتب الأولى في صفوف دراسته، ثم عاد إلى سنغافورة حاملًا شهادة في القانون، وانضم إلى الحركة الوطنية، حيث برزت قدراته القيادية، وأسهم في تفعيل النقاش حول قضايا الاستقلال وإنشاء الدستور، وأسَّس حزب العمل الشعبي، وأصبح رئيسًا له، ونجح في الوصول إلى منصب الوزير الأول لسنغافورة عام 1959م، ولم يترك المنصب إلا في عام 1990م، بعد أن وضع الأُسس، وقاد الدولة من القاع إلى مصافِّ الدول الأكثر ثراءً في العالم من حيث نصيب الفرد.
سنوات التحدي والبناء
بعد الاستقلال في عام 1959، تولَّى لي كوان يو زمام الأمور في سنغافورة التي كانت تواجه تحديات جمَّة: اقتصاد ضعيف، بنية تحتية مُتردية، وفساد ينخر في جميع أنحاء الدولة، وتنوّع عرقي قد يؤدّي إلى صراعات، ومع ذلك، فقد تمكَّن من توحيد الشعب السنغافوري حول هدف واحد، هو بناء دولة قوية ومزدهرة.
أبرز إنجازات لي كوان يو
- التنمية الاقتصادية: نجح لي كوان يو في تحويل سنغافورة من دولة نامية إلى مركز مالي عالمي. حيث صارت سنغافورة ناجحة اقتصاديًّا عبر الاستثمار في مينائها الذي صار أكثر موانئ العالم ازدحامًا على مستوى العالم، إذ استثمرت الحكومة في الموقع الإستراتيجي للبلاد عند مدخل مضيق ملقا، ولتعويض افتقارها للموارد الطبيعية، فتحت سنغافورة أبوابها لرجال الأعمال الأجانب الذين جلبوا المهارات والثراء إلى الجزيرة التي يقترب عدد سكانها من 6 ملايين نسمة، وكان التجنيد الإجباري مُطبَّقًا في وقت قريب، كما كان الحصول على تصريح بناء منزل يتطلَّب بناء ملاذ مضاد للقنابل، وفي غضون عقود قليلة، ارتفع نصيب الفرد من الدخل بشكل كبير، وأصبحت سنغافورة واحدة من أغنى الدول في العالم.
- البنية التحتية: تم بناء بنية تحتية متطورة في سنغافورة، شملت شبكة طُرُق حديثة، ومطارًا دوليًّا حائزًا على جوائز، وميناءً بحريًّا يُعدّ من أكبر الموانئ في العالم.
- التعليم: أولى لي كوان يو أهمية كبيرة للتعليم، واعتبره أساس التنمية، حيث تم إنشاء نظام تعليمي فعَّال، وارتفع مستوى التعليم بشكل ملحوظ. وقد استلهم الزعيم السنغافوري، بعض أُسُس التعليم من التجارب البريطانية والغربية؛ يريد لهذه الدولة الأصغر، أن تخترق العالم بتربية العقول، فركَّز على التعليم المنتج، فالفهم أهم من الحفظ، و يقول لي كوان: "أنا لم أقُم بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فقط قُمت بواجبي، فخصَّصت موارد الدولة للتعليم، وغيَّرت مكانة المعلمين، من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقة في سنغافورة، المعلم هو من صَنَع المعجزة، هو من أنتج جيلًا متواضعًا يحب العلم والأخلاق، بعد أن كان شعبًا يبصُق، ويشتم بعضه في الشوارع"، في عام 1997، أطلقت رؤية جديدة تحت مُسمَّى: "مدارس تفكِّر، أمة تَتَعلم"، ومن العنوان يبيِّن البيان، فالمدرسة التي تفكّر، لا تردِّد كالببغاوات ما لا تفهمه، عندما ينشأ عقل الطالب الصغير على التفكير، دون قيود، سيكون قادرًا عندما ينضج على القيادة والابتكار، والدفع بنفسه وعمله إلى الأمام.
- السكن: تم حل مشكلة نقص السكن التي كانت تعاني منها سنغافورة، حيث تم بناء مساكن حكومية بأسعار معقولة لتوفير سكن لجميع المواطنين.
- مكافحة الفساد: نفَّذ لي كوان يو حملة صارمة ضد الفساد، مما أسهم في تعزيز الثقة في الحكومة.
- الحفاظ على النظافة: اشتهرت سنغافورة بنظافتها، حيث تم تطبيق قوانين صارمة للحفاظ على البيئة.
الأمن والاستقرار: تمكَّن لي كوان يو من تحقيق الأمن والاستقرار في سنغافورة، مما جعلها وجهة جاذبة للاستثمار.
أرقام توضّح الإنجاز
- نمو الناتج المحلي الإجمالي: ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة بأكثر من 100 ضعف منذ الاستقلال، حيث إن معدّل دخل الفرد السنوي يتجاوز الـ23 ألف دولار، ما يمثّل ضعف معدّل الدخل لدى نموذج نجاحٍ آخر مثل كوريا الجنوبية.
- متوسط العمر المتوقع: ارتفع متوسط العمر المتوقع في سنغافورة بشكل كبير، مما يدل على تحسُّن مستوى المعيشة والصحة.
- معدّل الجريمة: انخفض معدّل الجريمة في سنغافورة بشكل ملحوظ، مما جعلها واحدة من أكثر الدول أمانًا في العالم.
سر النجاح السنغافوري
أسهمت عدّة عوامل في نجاح لي كوان يو، وهي كالتالي:
- الرؤية الإستراتيجية: كان لدى لي كوان يو رؤية واضحة لمستقبل سنغافورة، ووضع خططًا طموحة لتحقيقها.
- الحوكمة الرشيدة: اعتمد لي كوان يو على مبادئ الحوكمة الرشيدة، والقضاء على الفساد، وتعزيز الشفافية. في حين أن كثير من سياساته لا تزال موضع شك وانتقاد بالنسبة لكثيرين، إلا أنه ظل ثابتًا على موقفه منها حتى وفاته، لأنها بالنسبة له كانت ضرورية لبناء البلاد، ويقول لي كوان يو "لم نكن لنحقق تقدُّمًا اقتصاديًّا إذا لم نتدخّل في مسائل شخصية للغاية، مثل من هو جارك وكيف تعيش، وما هو سبب الضجيج الذي تُحدثه، كيف وأين تبصق". ويتابع قائلًا: "أنا أقف بجانب تاريخي كامله، لا أتخلى عن شيء منه، لقد قُمت بفرض بعض السياسات الحادة والقاسية جدًّا أحيانًا من أجل الوصول إلى الأوضاع الصحيحة، لقد كان الكثير على المحك، ولكن في نهاية المطاف هذا ما حصلت عليه: سنغافورة ناجحة".
- الاستثمار في رأس المال البشري: أولى لي كوان يو أهمية كبيرة للتعليم، واعتبره أساس التنمية البشرية كما ذكرنا آنفًا.
- الانفتاح على العالم: شجَّع لي كوان يو الاستثمار الأجنبي المباشر، وجعل سنغافورة وجهة جاذبة للشركات العالمية.
ولم تكن تُقلقه نتائج استطلاعات الرأي الشعبي، وآمن دائمًا بأفكار الفيلسوف الإيطالي الشهير نيكولا مكيافيلي، لذلك رأى أن الزعيم الجيد هو الذي يُخشى، ففي كتابه "قصة سنغافورة" كتب لي كوان يو "كنت دائمًا أعتقد أن ميكافيلي على حق، فإذا لم يكن هناك أحد يخشاني، فأنا بلا معنى"، لم يخش أحدًا لأن يده لم تُلوّث بفساد لذلك خشيَه الجميع.
وفي عام 1955 صرَّح لي كوان يو قائلًا "لقد اتُّهمت بأشياء كثيرة في حياتي، ولكن الشيء الوحيد الذي لم يتهمني به حتى أسوأ أعدائي، هو أنني أخاف من التعبير عن رأيي".
خاتمة
لي كوان يو شخصية فريدة تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ سنغافورة والعالم، لقد حوَّل دولة صغيرة إلى قوة اقتصادية عالمية، وحقَّق لشعبه مستوى معيشة عاليًا، إن إنجازاته شاهدة على أن الإرادة والعزيمة يمكن أن تحوِّل المستحيل إلى واقع، وإن من أهم أُسس النجاح هي القضاء على الفساد، والاستثمار في الإنسان والتعليم. وقد استفادت من نجاح هذا النموذج السنغافوري مدنٌ متفوقة مثل دبي، لقد برع الزعيم الماليزي "لي كوان يو"، في إدارة بلاده، وإنقاذها من الضياع، حين أدار الأمور بميزانٍ من ذهب، قبض على السلطة بقوَّة، وأخذ زمام التنمية بالقوَّة ذاتها، فنجت السفينة من الغرق، وأخذ بأيدي الناس إلى مستقبلٍ واعدٍ.