كتبت: نورهان زكريا
يُعتبر هذا الملك من أشهر ملوك الأسرة العلوية خاصةً وملوك مصر عامةً؛ حيث كانت شهرته واسعة من حيث الأحداث التي مر بها والظروف التي طرأت عليه عندما حكم مصر، ولطفولته حجر أساسي فيما مرَّ به في شبابه وفي فترة حكمه، وفي هذا المقال سنتحدث عن حياته المُبكّرة التي أثّرت عليه فيما بعد.
الولادة
كان الملك فؤاد الأول يطمع في ولادة ولي العهد، كي يتولّى الحكم من بعده، وكان قد سبق له الزواج من شويكار هانم، والتي أنجب منها إسماعيل، لكنه تُوفّي وكان عمره سنة واحدة، وابنته منها الأميرة فوقية. تم الطلاق من شويكار هانم، وبعدها تزوّج نازلي عبد الرحيم باشا صبري، والتي كان عمرها عند الزواج 25 عامًا، وكان عُمر الملك فؤاد الأول تخطَّى الـ 50 عامًا. لحسن الحظ كان أول إنجاب لسيدة نازلي هانم ذكرًا. وُلد فاروق بن فؤاد بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا في 11 فبراير سنة 1920. صدر بلاغ سلطاني يُعلن فيه مجلس الوزراء عن ميلاد الأمير فاروق في قصر عابدين، فأُطلقت 21 رصاصة ترحيبًا به. وقامت الاحتفالات في مصر آنذاك، وتم توزيع جنيهات ذهبيّة على الناس فرحةً بقدوم ولي العهد.
النشأة الصارمة
حاول الملك فؤاد منذ ولادة الأمير فاروق أن يجهّزه للحكم؛ حيث خصص له مربيّة إنجليزية لتولّي تربيته، وهي مس (إينا تايلور)، وذلك بعد أن وافقت إنجلترا على تنصيب الأمير فاروق ولاية العهد، وكانت تعامله هذه المربية بصرامة إنجليزية شديدة، حتى وصل بها الأمر أن تتخطَّى حدودها في علاقته مع والدته نازلي هانم. كان يتم عزله عن الجميع من حيثُ حضور الدروس منفردًا، لم يكن له أصدقاء لكي يلعب معهم وكان معظم الأوقات وحيدًا. كان يُسمح له فقط بزيارة شقيقاته، وهُنَّ (الأميرة فوزية، الأميرة فايزة، الأميرة فائقة، الأميرة فتحية). وكان يتكلَّم فقط مع خدم القصر الذين كانوا بالمناسبة إيطاليين. وصلت سيطرة الإنجليز على الأمير الصغير إلى تعيين مدرسين ومدرسات من الإنجليز؛ حتى يُبعدوه عن الثقافة الإيطالية التي كانت محيطة بالقصر الملكي، ولا سيَّما كبير رئيس الحاشية الإيطالية (إرنستو فيروتشي) وكبير مهندسي القصر.
سفره إلى بريطانيا
كان الإنجليز يرغبون في سفر الأمير لتلقِّي تعاليمه هناك، وكان هذا ضد رغبة أمه؛ حيث إنه سوف يبعد عنها أكثر، ولكن دون جدوى، حيث عرضوا الأمر على الملك فؤاد مرة ثانية عندما كان عنده 16 عامًا، وقد وقع الاختيار على مدرسة (ساند هرست)، وهي مدرسة عادةً ما يلتحق بها أبناء الأسرة الملكية والأُسَر الكبيرة في إنجلترا، حتى يُكمل تعليمه فيها ويلتحق بعد ذلك بكلية آيتون، وهي أرقى كلية هناك في ذلك الوقت.
اختيار قائد البعثة
وقع الاختيار في البداية على حسنين باشا، ولكنه اعتذر عنها لأنه لديه التزامات مالية كبيرة لا بُدَّ له من الوفاء بها قبل سفره، ووقع اختيار الملك بعدها على عزيز المصري؛ لما كان يُعرف عن نشأته العسكرية في معاهد تركيا وألمانيا، مما يجعله أهلًا للإشراف على توجيه الأمير في المرحلة الجديدة من نشأته ودراسته. ولكن هذا الاختيار لم يرحّب به الإنجليز، وكانوا يرغبون في أن يصبح رئيس البعثة شخصية إنجليزية، ولكنهم لم يفوّتوا في هذه الفرصة؛ حيث رشّحوا حسنين باشا (والذي كان مُتفتِّحًا على عكس عزيز المصري)، وقد طلب الملك من ذي الفقار باشا أن يسدّد ديونه من المرتب الشهري حتى يُسافر مع الأمير.
أعضاء البعثة
وقد رافق الأمير فاروق خلال بعثته أحمد حسنين باشا ليكون رائدًا له، والذي كان له دور كبير في حياته بعد ذلك، بالإضافة إلى عزيز المصري الذي كان نائبًا لرئيس البعثة وكبيرًا للمعلمين، وكذلك عمر فتحي حارسًا للأمير، وكبير الياوران فيما بعد، والذي كان يُعرف بدماثة الخُلق وحب الاطّلاع والشغف بالقراءة باللغة الإنجليزية، وكذلك الدكتور عباس الكفراوي طبيبًا خاصًّا وصالح هاشم أستاذًا للغة العربية، بالإضافة إلى حسين باشا حسني سكرتيرًا خاصًّا. كذلك أُضيف إلى الحاشية موظف من الإدارة الفرنجية؛ ليقوم بكتابة المراسلات والحسابات. وقد نزلت أفراد البعثة في قصر صغير يُعرف بـ (كنري هاوس)، ويقع في ضاحية كنجستون على مقربة من لندن. وقد سافر الأمير والحاشية في أكتوبر عام 1935م.
هل كانت البعثة علمية؟
ما إن وصل الأمير إلى لندن، بدأ حسنين باشا يفتح عيون الأمير بأشياء لم يعتد عليها، ولم يكن لديه خلفيّة عنها من قبل، فقد شجّعه على الذهاب إلى المسارح والسينما ومصاحبة النساء، وكذلك لعب القمار، بينما كان عزيز المصري دائم الاعتراض على كل تلك التصرفات، وكان يحاول بكافة الطُّرُق أن يجعل من فاروق رجلًا عسكريًّا ناجحًا ومؤهّلًا حتى يكون ملكًا قادرًا على ممارسة دوره القادم كملك لمصر. وكان فاروق بالطبع بحكم ظروف نشأته القاسية والصارمة يميل إلى أحمد باشا حسنين، ويرفض ويتمرّد على تعليمات وأوامر عزيز المصري، كذلك لم يتلقَّ تعليمه لأن الفترة كانت قصيرة جدًّا؛ حيث جاءه خبر وفاة والده.
وفاة الملك
شاءت إرادة الله أن تكون هذه البعثة مبدأ الفُرقة بين الابن وأبيه، فالملك في الشهور التالية اشتدّ عليه المرض حتى فارق الحياة في 26 أبريل 1936م. علم الأمير بوفاة أبيه وعلى الفور طلبت البعثة سفر الأمير، وحدث بالفعل؛ حيث وصل الأمير فاروق إلى رصيف الإسكندرية يوم 6 مايو (وقد سُجِّل هذا اليوم بجلوسه على العرش). واستقبلته الناس بحفاوة بالغة على رأسهم علي ماهر الذي سيُصبح فيما بعد رائده. وكانت ملامحه بها الحزن والبشاشة والوسامة. لم تنقطع تحية الناس طوال الطريق إلى القاهرة واستقبلته حاشية القصر.
مشكلة في السن
لم يكن في الحسبان أن يتوفّى الملك دون بلوغ الأمير سن الثمانية عشر، حيث يوجد أمير آخر يطمع في المُلك منذ البداية، وهو الأمير محمد علي ابن الخديوي توفيق، وكان الملك فؤاد يخاف منه أن يصبح الملك من بعده، وكانت المادة الثامنة في نظام وراثة العرش تنصّ على أنه «يبلغ الملك سن الرشد إذا اكتمل له من العمر ثماني عشرة سنة هلالية»، كما نصَّت المادة التاسعة على أنه: يكون للملك القاصر هيئة وصاية للعرش لتولّي سلطة الملك حتى يبلغ سن الرشد.
مجلس الوصاية
قد تم إسناد مهام الملك إلى مجلس الوصاية الذي اختاره الملك فؤاد قبل وفاته، والذي كتب الملك فؤاد أسماءهم في وثيقة من نسختين طِبق الأصل أُودعت إحداهما في الديوان الملكي وأُودعت الأخرى في البرلمان. وقد تم فتح الوثيقتين والتأكُّد من مطابقتهما في جلسة برلمانية في 8 مايو 1936 تم فيها تسمية مجلس الأوصياء على العرش، وهم:
الأمير محمد علي توفيق أكبر أمراء الأسرة العلويّة سنًّا، والذي أصبح وليًّا للعرش، وكان يشغل هذا المنصب قبل ولادة ابن الملك فؤاد، وشريف صبري باشا (شقيق الملكة نازلي، أي خال الملك فاروق)، وعزيز عزّت باشا (وزير الخارجية وقتها، وكان أوّل سفير لمصر لدى المملكة المتحدة).
ومنذ تولّيه الحكم عيّن الدكتور حسين باشا حسني سكرتيرًا خاصًّا له، وحتى تنازله عن العرش. واستمرّت مدة الوصاية ما يقارب السنة وثلاثة شهور؛ إذ أتمَّ الملك فاروق 18 سنة هلالية في 21 جمادى الأولى 1356 هـ الموافق 29 يوليو 1938م، وعليه فقد تم تتويجه يومها رسميًّا ملكًا رسميًّا للبلاد، وتولّى العرش منفردًا دون مجلس وصاية.
سفر الأمير إلى أوروبا
كان الملك فؤاد الأول يريد لابنه أن يقوم برحلة حول العالم؛ لمعرفة الملوك والأمراء ورؤساء البلاد، وبالفعل قام الملك القادم بزيارة إلى أوروبا بدلًا من استكمال تعليمه حتى يبلغ سن العرش، وقد وقع الاختيار على باخرة كبيرة إنجليزية تقوم برحلة بين إنجلترا والهند. وكانت الرحلة تضمّ الأمير والملكة وشقيقاته الثلاثة، وخاله حسين صبري باشا والسيدة قرينته، والسيدة زينب هانم سعيد وصيفة الشرف للملكة نازلي وكريمتها الآنسة (صافيناز)، فضلًا عن الرائد حسنين باشا والطبيب الخاص عباس الكفراوي، وعمر فتحي والتشريفاتي علي رشيد، وسكرتير البعثة عبد المنعم رأفت والمستر فورد، كذلك الأستاذ علي يوسف لمتابعة دروس الأميرات وعبده أفندي والذي كان لديه دالّة خاصة عليه، حيث كان الحارس الخاص به منذ ولايته، وكان ينطق اسمه دون أيّ لقب.
تنصيب الملك فاروق
ويذكر الدكتور حسين حسني باشا السكرتير الخاص للملك فاروق في كتابه (سنوات مع الملك فاروق) عن الاحتفال بتنصيب الملك فاروق، فيقول: (ولقد كانت حفلات تولية الملك عيدًا، بل مهرجان متواصل لم ترَ البلاد له مثيلًا من قبل، ولم يسبق أن زخرت العاصمة بمثل ما احتشد فيها خلالها من جموع الوافدين إليها من أقصى أنحاء البلاد ومن الخارج للمشاركة في الاحتفاء بالملك الشاب، أو لمجرد رؤية موكبه للذهاب إلى البرلمان ولتأدية الصلاة أو لحضور العرض العسكري أو لاجتلاء الزينات التي أُقيمت في الشوارع والميادين، وعلى المباني العامة والخاصة، كما شهد القصر فيها ما لم يشهده من قبل من ازدحام فاضت به جوانبه وجوانب السرادق الكبير الذي أُقيم في ساحته لاستقبال المهنّئين يوم التشريفات التي امتدّت ساعتين أطول مما كان مُقدَّرًا لها، وظل الملك خلالها واقفًا على قدمَيه لمصافحة كل فرد من المهنّئين؛ ما جعله يطلب فترة قصيرة للراحة، فضلًا عن ذلك، فإن ممثلّي تلك الجموع من مختلف الفئات والهيئات دُعوا إلى حفلة الشاي التي أُقيمت بحديقة القصر في آخر أيام الحفلات، وأخذ الملك يتنقّل بين الموائد المختلفة لتحية المدعوّين قبل أن يأخذ مكانه على المائدة الكبرى وسطهم، وقد كان سعيدًا كل السعادة بما تم على يده من فتح جديد في تقاليد القصر وما كان يحوطه به الشعب من مظاهر وتجاوب معه).
لقد ذكرنا جزءًا بسيطًا من حياة الملك فاروق المبكّرة، والذي تحيطه الأسرار والأحداث من كل جانب، وإن الحديث عنه لا يكفي أبدًا، ولن يتوقَّف أبدًا.
تدقيق: شيماء عبد الشافي
المصادر:
- سنوات مع الملك فاروق لحسين حسني.
- الملك الذي غدر بِه الجميع لعادل ثابت.
- فاروق ملكًا لأحمد بهاء الدين وتقديم إحسان عبد القدوس