آخر الأخبار

لماذا طرد الرسول -صلّى الله عليه وسلم- اليهود من المدينة؟

كتبت: نورهان زكريا

لماذا طرد الرسول -صلّى الله عليه وسلم- اليهود من المدينة؟

مقدمة

اليهودية ديانة الشعب اليهودي، وهي ديانة توحيدية قديمة، وأقدم الديانات الإبراهيمية، وتستند في تعاليمها على التوراة كنصّها التأسيسي، والتي أُنزلت على سيدنا موسى عليه السلام بحسب المعتقدات اليهودية. وتشمل الدين والفلسفة والثقافة للشعب اليهودي. وهنا نسأل لماذا جاء اليهود إلى المدينة (يثرب) وأين كان موطنهم الأصلي، وكيف كانت علاقتهم مع العرب، وما موقفهم من الدعوة الإسلامية، ولماذا طردهم الرسول ﷺ من يثرب. وفي هذا الموضوع سنتعرّف أيضًا على أصل اليهود وموطنهم الأصلي. 


أصل اليهود


ينحدر اليهود من النبي يعقوب (إسرائيل) عليه السلام بن إسحاق عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام، وللنبي يعقوب ثلاثة عشر ولدًا، هم روبين، شمعون، لاوي، يهوذا، دان، نيفتالي، جاد، أشير، زبلون، دينا، إيساخر، وسيدنا يوسف عليه السلام وأخيه بنيامين. ومعظمنا يعرف قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته التي ذكرها لنا القرآن الكريم في سورة يوسف، وأنهم جاءوا إلى مصر بعد أن دبَّ القحط عليهم في أرض كنعان في بلاد المشرق (فلسطين حاليًا). واستقروا في مصر. وفي الفترة التي عاشوها في مصر كانت الحكومة المصرية بقيادة فرعون تسترق مَن هم من نسلهم. بعد 400 عام  من العبودية وعندئذٍ أرسل الله سبحانه وتعالى النبي موسى عليه السلام وهو من سبط لاوي، لإطلاق سراح بني إسرائيل من الاسترقاق المصري. وينصّ الكتاب المقدّس على أن العبرانيين هاجروا بمعجزة من مصر (المعروفة باسم الخروج)، وعادوا إلى أرض آبائهم وأجدادهم في أرض كنعان. هذا الحدث يمثّل بداية تكوين إسرائيل لتكون أمّةً لها شأن سياسي في كنعان، في 1400 قبل الميلاد.


عودة اليهود إلى موطنهم الأصلي


ويذكر الكتاب المقدّس أنه بعد تَحرّر بني إسرائيل من العبودية المصرية، تاهوا وعاشوا في سيناء لفترة بلغت أربعين عامًا قبل فتح كنعان سنة 1400 قبل الميلاد بقيادة يوشع بن نون (فتى سيدنا موسي)، ويشير الكتاب المقدّس إلى أنه أثناء الفترة التي قضوها في صحراء سيناء نزلت عليهم الوصايا العشر على جبل طوى بسيناء. وكانت هذه هي البداية الحقيقية لليهودية ليظهر أول دين إبراهيمي. أخذ كل سبط من الاثني عشر سبطًا جزءً من الأرض. وظلّت أرض إسرائيل لبضع مئات من السنين اتحادًا مُقسّمًا إلى اثنتَي عشرة قبيلة يحكمها سلسلة من القُضاة. ثم جاءت الملكية الإسرائيلية، كما يقول الكتاب المقدّس. تكوّن الحكم الملكي سنة 1000 قبل الميلاد تحت حكم شاول، ثم جاء الملك داود وابنه سليمان. وفي عهد سيدنا داود، أصبحت مدينة القدس الموجودة حينئذ هي العاصمة الوطنية والروحية لإسرائيل، وبنى سيدنا سليمان أول معبد على جبل موريا في القدس. وبعد وفاة النبي سليمان تفكّكت هذه الأسباط، وحدثت حرب أهلية بين أسباط الشمال، وضُمّ سبط شمعون إلى سبط يهوذا، وانقسمت الأمة إلى مملكة إسرائيل في الشمال، ومملكة يهوذا في الجنوب. ثم خضعت إسرائيل لسيطرة الملك شلمنصر الخامس حاكم آشور في القرن الخامس قبل الميلاد على الأغلب. 


هجرة اليهود إلى يثرب


تذكر بعض المصادر أن اليهود هاجروا إلى يثرب بعد أن حاربهم الرومان وقاموا بهدم الهيكل في القدس، وحرقوا القدس سنة 70 ميلاديًّا على الأرجح وتشتّتوا في بقاع الأرض، واستقرّ بعضهم في شبه الجزيرة العربية وهم بني عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو هدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة وأطرافها. وقد عُرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود بـ(الكاهنين)، نسبوا ذلك إلى جدّهم الذي يُقال له (الكاهن) و(الكاهن) هو الكاهن بن هارون بن عمران. وأما قبيلة بني قينقاع، فذكر السمهودي "قال الحافظ ابن حجر: "وهم من ذرية يوسف الصديق عليه السلام"". وأما قبيلة بني هدل فقد جاء في نسبهم "بَنِي هَدَلٍ لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النّضِيرِ نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ هُمْ بَنُو عَمّ الْقَوْمِ"، وعلى هذا ربما يكون بنو هدل من نسل داود؛ لأن ذرية داود فيه مُلك ورياسة اليهود إلى اليوم، وهو أعلى رتبة من ذرية الكاهن. أو ربما هم من ذرية الكاهن كذلك، إلا أنهم أعلى في النسب؛ وذلك بسبب الفرق في المكانة والمنزلة. كما كان التمايز بين النضير وقريظة في الديّة. أو ربما قصد بأن جدّهم الذي ينتسبون إليه أعلى في المرتبة الزمنية كما ذكر السهيلي "وَذَكَرَ فِي نَسَبِ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ عَمْرًا، وَهُوَ هَدَلٌ". وبنو ثعلبة وهم رهط ملكهم الفطيون، وقد ذكر ابن الأثير بأنهم من بني إسرائيل. وعلى هذا يُحتمل بأن يكون بنو الفطيون من نسل داود؛ إذ إن الملك في اليهودية لا يجوز إلا في نسل داود كما نصّ الكتاب المقدّس؛ "لأن الله قال الملك الذي يجلس على عرش إسرائيل يكون دائمًا واحدًا من نسل داود". وما يهمّنا في هذا المقال ثلاث قبائل يهودية، هي (بنو النضير - بنو قينقاع - بنو قريظة


العلاقة بين العرب واليهود


عاش اليهود مُنعزلين عن العرب، وبنوا الحصون كحماية لهم، وكانوا لا يهوون الاختلاط بأي جنس غير اليهود، بزعمهم أنهم أرقى أصحاب الديانات التوحيدية، وأن العرب أُمّيّون، ولكن حدث اختلاط بينهم في الحياة السياسية والاقتصادية. 


العلاقة الاقتصادية


بَرَع اليهود في مختلف المجالات، حيث عملوا في الزراعة والتجارة، وكانوا يعملون في الصناعة، مثل يهود بني قينقاع الذين عملوا في الصاغة، وكانوا أكثر اليهود مالًا، وأخذهم للربا؛ فكانوا يقرضون أهل يثرب أموالًا بالربا والرهن، وكانوا حريصين أن تبقى المصالح الاقتصادية صالحة لهم، حتى أنهم حرّضوا بين القبائل حتى تبقى الزعامة لهم. 


العلاقة السياسية


ذهب بعض المستشرقين في الاعتقاد إلى أنه قد ظهرت في يثرب دولة يهودية امتدّ سلطانها السياسي حتى شمل شمال الحجاز بأجمعه، وكان لليهود ملك على يثرب يُلقَّب بـ«الفيطوان» أو «الفيطون» أو «الفطيون»، قال ياقوت الحموي "ولما استولى اليهود في الزمن القديم على المدينة وتغلّبوا عليها، كان لهم مَلك يُقال له الفطيون"، وقال كذلك "وكان ملك بني إسرائيل يُقال له الفيطوان، وفي كتاب ابن الكلبي: الفطيون، بكسر الفاء والياء بعد الطاء، وكانت اليهود والأوس والخزرج يدينون له"، وذكر الإخباريون أسماء نفر ممن كانوا يُلقّبون بالفطيون، وكان آخر ملوكهم الفيطوان جوني بن شريف بن كعب، وأفل حكمهم في زمن ملك الغساسنة الحارث بن جبلة. وقيل إن الحجاز فيما مضى كانت من توابع مملكة يهوذا، يقول ابن خلدون "قال المسعودي: "وكانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله وأكثرها ماءً، فنزلوا بلاد يثرب واتّخذوا بها الأموال وبنوا الآطام والمنازل في كل موطن، وملّكوا أمر أنفسهم، وانضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم واتّخذوا الأطم والبيوت، وأمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام".


نبوءة اليهود حول آخر نبي


كان اليهود يعتقدون أن آخر نبي سوف يكون من بني إسرائيل، وسوف تعلو مكانتهم أكثر بين العرب. ومن المعلوم أن اليهود أقاموا بالجزيرة العربية قبل بعثة النبي ﷺ، وكانوا يفخرون على جيرانهم من العرب بأنهم من أهل الكتاب، وأنهم يعتنقون دينًا سماويًّا مُنزلًا من عند الله، وقد اقترب ظهور نبي آخر الزمان الذي بشّرت به التوراة، لقد تعدّدت الأوصاف في الكتب السماوية السابقة بعلامات وصفات خاتم النبيين محمد ﷺ، ولولا ما حدث في هذه الكتب من تحريف وتزييف وكتمان، وما أصاب أحبارهم وقساوستهم من كِبْر وحسد، لكانت النصوص الدالة على نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس في وسط النهار، وما كان يخفى على اليهود أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا نبوّته، ولكنّهم كتموا ما عندهم من آيات وبيّنات، وجحدوا الحقّ واستكبروا عنه حسدًا من عند أنفسهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:146) وقال ابن تيمية: "قد رأيتُ أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوّة محمد -صلى الله عليه وسلم- باسمه، ورأيتُ نسخة أخرى بالزبور، فلم أرَ ذلك فيها، وحينئذٍ فلا يمتنع أن يكون في بعض النّسخ من صفات النبي ﷺ ما ليس في أخرى.


وصول سيدنا محمد ﷺ إلى يثرب


كما نعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عَلم من سيدنا جبريل عليه السلام أن قريش تريد أن تقتله، وأمره بالهجرة إلى يثرب، وعندما وصل إلى يثرب حدّد العلاقات بين المهاجرين والأنصار، فنصّ الميثاق كما أورده ابن كثير في السيرة النبوية: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي الأمّي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمّةٌ واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفِدون عانيهم بالمعروف والقسط، وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفِد عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار، وأهل كل دار: بني ساعدة، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النبيت. إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتّقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا. وإن المؤمنين يبوّئون بعضهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتّقين على أحسن هُدى وأقومه، وإنه لا يجير مشركًا مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه مَن اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بيّنة فإنه قود به إلى أن يرضى وليّ المقتول، وإن المؤمنين عليه كافّة ولا يحلّ لهم إلا قيام عليه. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحدثًا، ولا يؤويه، وإنه مَن نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردّه إلى الله عز وجل وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين، وإن يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يبتغ إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، ولا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن برّ واتقى"


قال ابن كثير: كذا أورده ابن إسحاق بنحوه. وقد تكلّم عليه أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- في كتاب الغريب وغيره بما يطول. (السيرة النبوية لابن كثير)


موقف اليهود من رسالة سيدنا محمد (ﷺ)


يأمر ديننا الحنيف، وكذلك باقي الشرائ السماوية بوجوب الإيمان بجميع أنبياء الله ورسله، ووجوب تعظيمهم، وإجلالهم، اعترافًا بفضلهم، وامتثالًا لأمر الله عز وجل بذلك، حيث قال سبحانه: {قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى وما أُوتي النبيّون من ربهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون} (البقرة:136)، فجميع أنبياء الله عز وجل في نظر المسلم مُستحقّون للتعظيم والإجلال، بل إن القرآن يصرّح أن الكفر بنبي واحد هو كفر بجميع الأنبياء، قال تعالى {كذّبت عادٌ المرسلين} (الشعراء:123) وعادٌ إنما كذّبت بنبي واحد هو هود عليه السلام، ولكن لما كانت دعوة الأنبياء واحدة كان التكذيب بواحد منهم تكذيبًا بجميع الأنبياء. هذا هو موقف المسلم من أنبياء الله ورسله، أما اليهود فلهم مع الأنبياء شأنٌ آخر، فكم من نبي آذوه، فقد آذوا موسى عليه السلام، واتّهموه بأنه قتل هارون عليه السلام، وكم من نبيٍّ قتلوه، فقد سعوا عند الرومان لقتل عيسى، وقتلوا يحيى عليه السلام، أما اتهامات اليهود للأنبياء بالفحش والأخلاق السيئة فقد ملأوا التوراة بها، ولذلك فلا غرو أن يقف اليهود، وهم أهل الدناءة والخسّة، من نبي الإسلام موقف المكذّب به، الناكر لنبوّته، كونه جاء بفضحهم، وبيان كفرهم، فضلًا على أنه لا ينتمي إليهم من جهة النسب، ما دفعهم إلى مناصبته العداء، ومحاربته سرًّا وجهرًا، وقد سطّر الله عز وجل بعض مواقف اليهود من النبي -صلى الله عليه وسلم- ليُعلم الناس مدى حقدهم وعداوتهم لنبي الإسلام، مع معرفتهم به، وتيقّنهم منه، قال سبحانه: {ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مُصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة:89). 


معاملة اليهود للرسول ﷺ ومخالفتهم العهد


أرسى الرسول ﷺ قواعد عند مجيئه إلى يثرب، ومنها ألّا يتحالف اليهود مع قريش، فعلى اليهود ألا يوالوا المشركين لأنهم أعداء الله وأعداؤهم، وهذا يجعل عدوهم واحدًا وحبيبهم واحدًا، وبالرغم من ذلك كان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله ﷺ في حضرته وأثناء خطابه، فكانوا يحيّونه بتحية، في باطنها الأذى والحقد عليه ﷺ، مما يدل على خبثهم وسوء أخلاقهم وبغضهم الشديد لرسول الله ﷺ. عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: "جاء ناس من اليهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: السّام (الموت) عليك يا أبا القاسم، فقلتُ: السّام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله ﷺ: مَه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفُحش ولا التفحّش، فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: ألستِ تُريني أردّ عليهم ما يقولون وأقول: وعليكم" رواه البخاري. قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (المجادلة:8). وهذا يُعتبر جزءً من المواقف التي مرَّ بها الرسول ﷺ مع اليهود. 


غزوة بني قينقاع


كانت أول الجماعات اليهودية إعلانًا لهذه العداوة هم بنو قينقاع الذين كانوا يسكنون أطراف المدينة، ولم يتوقّفوا لحظة عن إحداث الشقاق وإثارة المشكلات بين صفوف المسلمين، وكانوا مصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين، وتأييد وتشجيع للمشركين. حاول الرسول ﷺ التفاهم معهم؛ فجمعهم في سوقهم ونصحهم وذكّرهم بمصير قريش في بدر، فردّوا عليه: «يا محمد، لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا –يعنون قلّة خبرتهم في الحروب- لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلقَ مثلنا»، وتتّفق معظم المصادر أن سبب وقوع هذه الغزوة هي أن امرأه مسلمة زوجة أحد الأنصار كانت في السوق عند أحد صاغة اليهود لشراء حُليّ، وقام بعض شباب اليهود بمحاولة كشف وجهها غصبًا، فقام صاحب المحل -الصائغ اليهودي- بربط طرف ثوبها وعقده إلى ظهرها، فلما وقفت ارتفع ثوبها وانكشف جسدها. فأخذ اليهود يضحكون منها ويتندّرون عليها فصاحت تستنجد من يُعينها عليهم. فتقدّم رجلٌ مسلم رأى ما حدث لها، فهجم على اليهودي فقتله، ولما حاول منعهم عنها وإخراجها من بينهم تكاثر عليه اليهود وقتلوه. سار رسول ﷺ إليهم يحمل لواءه عمّه حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، حتى أتاهم فوجدهم قد تحصّنوا بحصنهم، فحاصرهم خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد. وكان عدد اليهود يومئذٍ سبعمِئة مقاتل، أربعمِئة حاسر وثلاثمِئة دارع، مُدرّعون بدروع الحديد، وحاول أحد المنافقين التوسّط فغضب الرسول ﷺ وأجلاهم عن المدينة، فجلا بنو قينقاع واتّجهوا شمالًا إلى الشام حيث أقاموا بأذرعات في شوال من السنة الثانية للهجرة تاركين وراءهم أموالهم وأسلحتهم وأدوات صياغتهم. وهكذا كان الغدر والخيانة سببًا في طرد وإجلاء يهود بني قينقاع عن المدينة المنورة. 


غزوة بني النضير


يُرجع بعض العلماء أن هذه الغزوة حدثت مع غزوة بني قينقاع أو حدثت بعدها مباشرةً، وتُعتبر أسباب هذه الغزوة هي نقض بني النضير عهدهم مع النبي ﷺ والذي يُحتم عليهم ألا يولّوا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة. وقد حصل ذلك في غزوة السويق؛ حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين عاد بقافلته إلى مكة، ألا يمسّ رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مِئتَي راكب قاصدًا المدينة، قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكُن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك. قال موسى بن عقبة: «كان بنو النضير قد دسّوا إلى قريش وحثّوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلّوهم على العورة، وأيضًا محاولة اغتيال النبي ﷺ حينما خرج في نفر من أصحابه إلى ديار بني النضير يستعينهم في ديّة القتيلين العامريين، وكان سببه ما رواه محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا: خرج رسول الله ﷺ إلى بني النضير ليستعينهم على ديّة العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن، فمن رجلٌ يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيُريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، وانصرف عنهم، وما لبث رسول الله ﷺ أن بعث محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير يقول لهم: «"اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجّلتكم عشرًا، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه"». فلم يجد اليهود مناصًا من الخروج، فأقاموا أيامًا يتجهّزون للرحيل والخروج من المدينة، غير أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول بعث إليهم أن اثبتوا وتمنَّعوا ولا تخرجوا من دياركم؛ فإنَّ معي ألفَي رجل يدخلون معكم حصونكم، يدافعون عنكم ويموتون دونكم. فأنزل الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)﴾ وهناك عادت لليهود ثقتهم، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رئيس المنافقين، فبعثوا إلى محمد ﷺ يقولون له: «إنّا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك». ولكنَّ محمد ﷺ حين بلغه جواب حيي بن أخطب كبَّر، وكبَّر المسلمون معه، ثم نهض ﷺ لقتالهم ومناجزتهم، فاستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وسار إليهم يحمل اللواء علي بن أبي طالب، فلما وصل إليهم فرض ﷺ عليهم الحصار، فالتجأ اليهود إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونًا لهم في ذلك، فأمر ﷺ بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾ (سورة الحشر) فلما رأى المنافقون جديّة الأمر، خانوا حلفاءهم اليهود، فلم يسوقوا لهم خيرًا، ولم يدفعوا عنهم شرًّا، ولم يطُل الحصار طويلًا، وإنما دام ست ليالٍ فقط، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فانهزموا وتهيّأوا للاستسلام وإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى سيدنا محمد ﷺ فقبض سلاحهم، واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد معهم من السلاح خمسين درعًا وثلاثمِئة وأربعين سيفًا، فكانت أموالهم وديارهم خالصة لسيدنا محمد ﷺ يضعها حيث يشاء، ولم يُخمسها (أي لم يقسِّمها بالخمس كالغنائم)؛ لأنَّ المسلمين لم يُوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما أفاءها الله عليهم وساقها لهم بدون قتال، فقسَّمها سيدنا محمد ﷺ بين المهاجرين الأوَّلين. 


غزوة بني قريظة


هي آخر غزوة خاضها النبي ﷺ ضد يهود المدينة، وذلك إثر غدرهم بالمسلمين ونقضهم للعهد الذي كان بينه وبينهم ومساندتهم المشركين في غزوة الخندق في السنة الخامسة للهجرة. بل إنهم عند محاصرة المشركين للمسلمين أخذوا يتجسّسون على عورات المسلمين ويتعرّفون على أماكن ضعف المسلمين كي يُبلّغوا بها المشركين، وتذكر صفية بنت عبد المطلب عمّة الرسول ﷺ أنّ نفرًا من اليهود جاء إلى حصن حسّان بن ثابت الذي كان به النساء والصبايا وأخذ يتجسّس عليهم، وعندما بلغ النبي ﷺ خبر بني قريظة أثناء حرب الخندق، أرسل نفرًا من صحابته بينهم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة وأسيد بن حُضير إلى قلاع بني قريظة ليتحقّقوا من ذلك، فوجدوهم قد نقضوا العهد. فناشدوا بني قريظة أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل أن يلتحم الأمر. فلم يهتموا بما قال، ونزل الرسول ﷺ إلى بئر من آبار بني قريظة وحاصره خمسًا وعشرين ليلة حتى جاهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، تقول عائشة -رضي الله عنها-: (.. فأتاهم رسول الله ﷺ فحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، فلما اشتدّ حصارهم واشتدّ البلاء، قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله ﷺ فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم أنه الذبح، قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله ﷺ انزلوا على حكم سعد بن معاذ، فنزلوا، وبعث رسول الله ﷺ إلى سعد بن معاذ، فأُتِيَ به على حمار عليه إكاف (ما يُوضع على ظهر الحمار) من ليف قد حُمل عليه، وحُفّ به قومه فقالوا: يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية ومن قد علمت، قالت: وأنَّى لا (وهو لا) يُرجع إليهم شيئًا ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال: قد آن لي ألّا أبالي في الله لومة لائم، قال أبو سعيد: فلما طلع على رسول الله ﷺ قال: قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه، فقال عمر: سيدنا الله عز وجل، قال أنزلوه فأنزلوه، قال رسول الله ﷺ: احكم فيهم، قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم، فقال رسول الله ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل وحكم رسوله. وقد نفّذ رسول الله ﷺ الحكم على أربعمِئة مقاتل وامرأة واحدة كانت قد قتلت أحدًا من الصحابة. وقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة جواز قتالِ مَن نقض العهد، وجعله الإمام النووي ترجمة للحديث عند مسلم، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه على المسلمين، ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان، وحينئذٍ يجوز للمسلمين قتالهم إنْ رأوا المصلحة في ذلك. 



وبالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تمامًا من الوجود اليهودي، الذي كان عنصرًا خطرًا لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، وانتهى حلم قريش في وجود حليف لها داخل المدينة.


تدقيق: شيماء عبد الشافي.


المصادر:


- البداية والنهاية لابن كثير "الجزء الرابع.


- العلاقات الإسلامية اليهودية في عصر الرسول صل الله عليه وسلم

العهد نيوز - al3hd news
العهد نيوز - al3hd news
تعليقات