كتبت: نورهان زكريا
يرتبط اسم تحتمس الثالث عادةً بفلسطين، وهذه المعلومة ليست منتشرة كثيرًا، ويُعتبر تحتمس الثالث أشهر قائد عسكري في تاريخ مصر القديم، وذلك يرجع لكثرة حملاته التي قام بها ولم يخسر فيها أبدًا. كذلك يرجع إلى آثاره في الكرنك أيضًا. في هذا المقال سنتعرّف على كيف تولّى الحكم وكيف نشأ وتربّي، وارتباطه بفلسطين وبالمدن التي حولها.
التعريف والنشأة
هو سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويُعتبر مؤسّس الإمبراطورية المصرية الحديثة في ذلك الوقت، وهذه الأسرة أيضًا حاربت الهكسوس على يد مؤسّسها أحمس الأول. نشأ تحتمس الثالث على يد حتشبسوت زوجة أبيه وعمته في الوقت نفسه، والتي تولّت الحكم بعد موت زوجها تحتمس الثاني بحكم أنها وصية على العرش، وما لبثت أن انفردت بالعرش ونحّته جانبًا وارتدت التاج المزدوج وتمثّلت بالرجال وارتدت ملابسهم في تماثيلها؛ حتى يقتنع الشعب بها. بعد موت حتشبسوت تولّى تحتمس الثالث الحكم بعدها، وانتقم منها بعد وفاتها؛ حيث أزال اسمها من فوق آثارها.
تولّي تحتمس الثالث الحكم
سجّل تحتمس الثالث قصة دعائية توضّح أنه تولّى العرش رغبةً عن أبيه آمون، حيث يذكر أنه منذ نعومة أظافره ورِع وتقيّ ومرتاد لمعبد الإله آمون بالكرنك، وحينما كان في إحدى قاعاته يرتكن إلى أحد جوانبها، فإذا بتمثال الإله آمون والذي كان يمر على أكتاف الكهنة طائفًا بالمعبد يتوقّف أمام الطفل تحتمس، وكأنه يمهّد لاختياره ملكًا على عرش البلاد.
أسباب معركة مجدو
بسبب صِغر سن الملك الجديد والاستهتار به، تعرّضت البلاد لهجرات الحوريين من أواسط آسيا، واستقر بعضها في سوريا والعراق، وتسمّوا باسم الميتانيين، وفي الأناضول باسم الحيثيين، وقد شجّعت تلك الظروف على عصيان أمراء سوريا وفلسطين بقيادة أمير قادش.
تفاصيل معركة مجدو
تُعتبر معركة مجدو أشهر الحملات التي قادها تحتمس الثالث على آسيا، حيث شنّ هذا الملك ما يزيد على 16 حملة عسكرية عليها. تُعرف معركة مجدو بهذا الاسم نسبةً إلى المدينة التي شنّ عليها الحرب، وتقع هذه المدينة على نهر العاص، والتي تتمتّع بموقع إستراتيجي مهم عند الطرف الجنوبي من سهل البقاع، كما كانت أغنى الإمارات في تلك الآونة، وقد سجّل تحتمس الثالث وقائع معركة مجدو وتاريخها بالتفصيل على آثاره، خاصةً جدران صالة الحوليات الخاصة به في معبد الكرنك. بنى تحتمس الثالث القلاع والحصون، وقام بتدريب الجنود على أفضل التدريبات وإمدادهم بأسلحة مُبتكرة قوية، مثل النبال المُستحدثة والتوسّع في استخدام العربات في القتال. وفي حملة معركة مجدو قسّم جيشه إلى قلب وجناحين، واستخدم تكتيكات عسكرية ومناورات لم تكن معروفة من قبل. ثم قام على رأس جيشه من القنطرة وقطع مسافة 150 ميلًا في عشرة أيام وصل بعدها إلى غزة، ثم قطع ثمانين ميلًا أخرى في أحد عشر يومًا بين غزة وأحد المدن عند سفح جبل الكرمل، هناك عقد تحتمس الثالث مجلس حرب مع ضباطه بعد أن علم أن أمير قادش قد جاء إلى مدينة مجدو وجمع حوله 230 أميرًا بجيوشهم وعسكروا في مجدو المُحصَّنة ليُوقفوا تقدّم تحتمس الثالث وجيشه.
عبقرية تحتمس الثالث العسكرية
كانت هناك ثلاثة طُرُق للوصول إلى مجدو، اثنان منها يدوران حول سفح جبل الكرمل والثالث ممر ضيق، ولكنه يُوصل مباشرةً إلى مجدو، وقد أستقرّ رأي تحتمس على أن يمر الجيش من الممر الثالث في مغامرة قلبت موازين المعركة فيما بعد. كانت قوّات أمير قادش وحلفائه قد تمركزت عند نهاية طريقين فسيحين، مُعتقدةً أن الجيش المصري سيأتي من أحدهما أو من كليهما. في فجر اليوم التالي أمر الملك تحتمس الثالث الجيش بإعادة تركيب العربات الحربية والاستعداد للهجوم المفاجئ. وهجمت قواته وكان على رأسها في المقدمة على شكل نصف دائرة على مجدو، فكانت المفاجأة أن يبادرهم المصريون بهذا الهجوم الكاسح، فاضطربوا وفقدوا توازنهم حتى أصبحت جيوشهم في حالة من الفوضى وعدم النظام، وبدأ قادة الجيوش والسرايا في الهروب تاركين وراءهم عرباتهم الكبيرة ومعسكرهم المليء بالغنائم ليدخلوا المدينة المُحصّنة. وبسبب انشغال أفراد الجيش المصري بجمع الغنائم تمكّن الآسيويّون من الهروب إلى المدينة وتحصّنوا فيها. كانت تابعة انصراف الجيش في جمع المغانم في الوقت الذي كان بإمكانهم القضاء على جيوش أمير قادش وتحقيق النصر الكامل، أن اضطر تحتمس الثالث لحصار مجدو سبعة أشهر طويلة حتى استسلم الأمراء وأرسلوا أبناءهم حاملين الأسلحة لتسليمها إلى الملك تحتمس الثالث. نتج عن هذه المعركة سيطرة تحتمس الثالث على فلسطين كلها وجنوب سوريا، وفي إحدى حملاته بلغت قواته نهر الفرات وحدود مملكة ميتاني.
سيطرة تحتمس الثالث على النوبة
بسط تحتمس الثالث سيطرته على الجنوب، حيث سيطر على النوبة السفلى بأكملها ووصلت قواته حتى منطقة الشلال الرابع في النوبة العليا، وقد دُوّنت وقائع تلك الحملات في معبد الكرنك وعلى صخور جبل برقل بالنوبة وغيرها.
العمارة في عهد تحتمس الثالث
شهدت النصوص على براعة تحتمس الثالث في الحياة العسكرية والحربية، حيث يُعتبر بمثابة مؤسّس الإمبراطورية المصرية، وذلك من خلال ما ذكرناه من حملاته العسكرية على البلاد؛ إذ أخذت الأمم التي لم تخضع لمصر تخطب ودّها مثل دولة خيتا وجزر البحر المتوسط، وتدفّقت الغنائم على مصر من كل جانب، مما أسهم بنصيب كبير في تقدّم فن العمارة وتطوير الحياة وزيادة رفاهيتها. وأصبحت طيبة في ذلك الوقت ليست عاصمة لمصر فقط، بل عاصمة العالم القديم بأسره. وقد بنى تحتمس الثالث في طيبة العديد من المعابد، منها معبدان، أحدهما بجانب معبد حتشبسوت في الدير البحري، كما قام ببناء البوابتَينِ العملاقتَين السادسة والسابعة وقاعة الاحتفالات في معبد الكرنك، وأكمل بناء معبد حابو الذي بدأته حتشبسوت، وأقام معبد للإله بتاح في موطنه في منف، ويحتوى المعبد على ثلاث حجرات الأولى لبتاح، والثانية لحتحور ربّة طيبة، والثالثة للإله سخمت زوجة بتاح؛ حيث يمثّلها تمثال لها برأس لبؤة يعتليه قرص الشمس، وله معبد في أمدا وسمنة، وأقام معبد في الفنتين للإله ساتت، وله آثار في كوم امبو وإدفو وعين شمس وأرمنت.
مسلّات تحتمس الثالث وأماكنها
أقام تحتمس الثالث ما لا يقل عن سبع مسلات معظمها موجود الآن في عدد من عواصم العالم، منها المسلة الموجودة في لندن (هي إحدى مسلّتين أقامهما تحتمس الثالث أمام معبد الشمس بهليوبوليس، وقد نقلهما مهندس إغريقي يُدعى بنتيوس إلى الإسكندرية ليُوضعا أمام معبد إيزيس، وقد سقطت هذه المسلّة من فوق قاعدتها في خلال القرن الرابع عشر من الميلاد، ويُقال إن محمد علي باشا أهداها إلى بريطانيا عام 1831م ولكنها لم تصل إلى لندن إلا في عام 1878م، ومن الجدير بالذكر أن هذه المسلّة قد أُصيبت بخدوش من شظايا القنابل أثناء الحرب العالمية الثانية على نهر التيمز، والمعروفة باسم إبرة كليوباترا، والتي كان تحتمس قد أقامها أمام معبد عين شمس، ومسلّة أخرى موجودة حاليًا في إسطنبول هي إحدى مسلّتين أقامهما تحتمس أمام الصرح السابع (بوابة عظيمة) بمعبد الكرنك، وقد نقلها الإمبراطور ثيودورس عام 510 م، وفي الواقع تمثّل هذه المسلّة الجزء الأعلى فقط من مسلّة كانت في الأصل أطول بكثير من أيّة مسلّة موجودة الآن، وله مسلّة أخرى موجودة في نيويورك أقامها تحتمس أمام معبد الشمس، فهذه المسلّة ومسلّة لندن توأمتان، وهي قائمة الآن في سنترال بارك، كما أمر تحتمس في أواخر أيامه بأن تُقام مسلّة أمام الصرح الثامن من معبد الكرنك، ولكنها لم تُستكمل بسبب وفاته، وتُركت في مكانها لمدة 35 عامًا إلى أن عثر عليها تحتمس الرابع وأقامها في المكان الذي كانت مُعدّه له، وتُوجد الآن في روما أمام كنيسة القديس يوحنا باللاتيران، قام قسطنطين الأكبر عامل الدولة الرومانية بنقل هذه المسلّة التي تزن 455 طنًّا إلى الإسكندرية عام 330 بعد الميلاد لإرسالها إلى بيزنطة لتجميل عاصمته الجديدة، ولكنه فشل في نقلها فبقيت وظلّت في مكانها مدة 27 عامًا حتى قام ابنه قسطنطنيوس بنقلها إلى روما، وأقامها في ميدان ماكسيماس، وفي عام 1587م كشف عنها ووُجدت مُحطّمة إلى ثلاث قطع؛ فتم إصلاحها وترميمها على يد دومنيكو فونتانا بأمر من البابا سكتس الخامس ونُصبت في مكانها الحالي بميدان اللاتيران، كما أمر أيضًا بأن يُرفع الصليب على قمّتها اعتقادًا منه أن ذلك رمز لانتصار المسيحية على الوثنية.
حكم تحتمس الثالث ما يقرُب من 54 عامًا، ضامًّا إليه فترة حكم الملكة حتشبسوت والتي لم يعترف بفترة حكمها، وتُوفّي عن عمر يناهز السبعين عامًا (اتّفقت عليه أغلب المصادر).
المصادر:
- الخطوط العامة لتاريخ مصر القديمة لـ مصطفى عطالله
- ويكيبيديا
تدقيق: شيماء عبد الشافي