القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة: هو والخضر

كتابة: أميرة ممدوح - إسلام عبد السلام

قصة: هو والخضر

انطفأت أنوار المدينة وذهب الجميع إلى سُباتهم العميق مُتعَبين من أفكارهم، مُرهقين من يومهم، باحثين عن قدر من الراحة.


بينما ذهب "هو" إلى الشاطئ، وجلس على صخرةٍ وسط المياه، كأنها جزيرة صغيرة. لا يضيء ليلته سوى نجوم صغيرة وقمرٌ منتصف، يبحثُ بين دقّات الوقت عن كماله. 


لا، ليست عادته أن يزور البحر بينما الناس نيام. بل على العكس، فقد كان أوّل النائمين يوميًّا، هاربًا من كل شيء بين وسادة وغطاء. لكن الليلة كانت قاهرة. 


غلبته أفكاره حتى لاحقته في سريره؛ فارتدى بنطالًا وقميصًا، وأخذته خطوات أقدامه إلى الشاطئ الصخري القريب. 


غطَّت المياه سطح قدمه، ولايزال يحفظ توازنه باستناده إلى ذراعيه اللتَين مدّهما وراء ظهره. ونظر إلى المدى، يسمع أمواج البحر تتلاحق في هدوء.


ألفُ فكرةٍ تصارعت في ذهنه من دون دافع أو ترتيب. لماذا ضربته أمه أمام الفتاة التي تسكن أمامهم وكان يراها زوجة المستقبل، عندما كان في الحادية عشرة من عمره؟! لماذا لم يحصل على المجموع الذي أراد ليصبح طبيبًا كما كان يحلم؟ لماذا لم يأكل البيتزا ليلة أمس بالرغم من أن صديقه وعده بأنه سيحضر له واحدة؟ لماذا لا يرى الكون بالمنظور الشعبي؟ لماذا تنهشه الأفكار يوميًّا؟ لماذا هو وحده؟ لماذا لا يشعر بالراحة الداخلية مهما حاول؟ لماذا يشعر بالنفور متى وضع سجادة الصلاة وتهيّأ للوقوف أمام الله؟! لماذا يبحث عن إلهٍ غائب لم يردّ على سؤاله يومًا؟ لماذا لا يكسب المال المناسب للمعيشة؟ لماذا قَبِلَ أن يعمل محاسبًا وهو لا يحبّ المحاسبة؟ لماذا درس المحاسبة من البداية؟ لماذا لا يقدر على قول لا إلا الله؟ هل يُقدِّر البشر، ويخاف منهم أكثر؟ هل ستبتلعه سمكة في ذلك الظلام ليذهب إلى عالم بعيد؟ عالم تتكشف فيه الأسرار!


وهكذا استرسلت الأفكار داخله بلا هدنة ولو لدقيقة واحدة. ولم يقطع فيض تلك الأفكار إلّا صوت رجل وضع يده فوق كتف "هو" وقال له: ألم يمرّ الفتى من هنا؟ 


انتفض "هو" ونظر في رعب، ليجد رجلًا يرتدي ثيابًا خضراء، ولم يرهُ من قبل مُطلقًا.


لعن "هو" الليلة ولعن الأفكار التي جعلته ينزل من بيته في تلك الليلة الظلماء، ولعن الساعة التي قرّر فيها المجيء للشاطئ.. وقبل أن يردّ على السؤال، جلس الرجل على صفحة الماء في ثبات مهيب وهدوء رهيب. وكرّر السؤال: ألم يمرّ الفتى من هنا؟


إلا أن ثبات الرجل فوق الماء وهو جالس جعل قلبه يكاد يتوقّف، ولعن الكون وكل ما يمكن أن يُلعَن، وحبس صوته داخل حَلقه، وارتجفت يداه وقدماه حتى أحدثت اهتزازات في الماء البارد.

 

فابتسم الرجل وقال: اهدأ، سؤالي بسيط. فقط إذا أجبت فسأرحل.. ألم يمرّ الفتى من هنا؟ 

تلقَّى "هو" السؤال في هذه المرة بمزيد من التوجّس الممزوج بالرهبة من مشهد الرجل الجالس بثبات على صفحة المياه، فأجاب في وجل: أيُّ فتى تقصد أيها الرجل؟

فأجاب الرجل بهدوء دون أن تتغير ملامح وجهه الهادئة: فتى موسى، ألم يمرّ من هنا؟

هنا أراد "هو" أن ينفجر من الضحك لولا أن ثبات ملامح الرجل قد أضفى على وجهه رهبة آسِرة، ألجمت الضحكة في حلقه، فأجابه في نفاد صبر: لا، لم يمرّ أحد من هنا.


فردّ الرجل وقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه: إذن أنت لا تعرف، فكلّهم مرّوا من هنا، لقد مرّ الفتى من هنا في صحبة موسى حين كان يبحث عن الحقيقة بالمعرفة، ولم يكتفِ بنبوّته، لقد مرّ الفتى من هنا في خدمة سيّده، لقد مرّ الفتى من أمامك دون أن تراه.


ازدادت رجفة "هو" وزاد توتره واضطرابه وراحت الأفكار تتلاحق على عقله حول ماهية الرجل الجالس أمامه في ثبات مهيب على صفحة الماء. هل هو درويش من هؤلاء الدراويش الذين يلقاهم حول الأضرحة وعلى عتبات الأولياء؟ وكيف يستطيع أن يجلس هكذا على الماء دون أن تضطرب ملامحه؟


كل هذه الخواطر تبادرت إلى ذهنه في ثوانٍ معدودة، ووجد نفسه يسأل الرجل في تلقائيّة، لا يدري كيف تجرّأ عليها: ماذا تريد منّي أيّها الرجل؟

فقال الرجل بهدوئه الذي صار مُعتادًا: أريد أن أُنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا.

وقعت الكلمات على "هو" كالصاعقة، ووجد نفسه يربط -بلا إرادة منه- ما بين ثياب الرجل الخضراء وتفوّهه بهذه الكلمات، وبين جلسته على الماء وثباته، بين وقاره وهيبته وبين ابتسامته الهادئة الواثقة التي شعر أنها تبعث الطمأنينة في قلبه شيئًا فشيئا، وتقلل من رجفته وخوفه من ظهور الرجل الذي كان مفاجئًا، فقال للرجل في تردد: لكي تنبّئني بتأويل ما لم أستطع عليه صبرًا، فلا بُدّ أن تكون كالخضر عليه السلام، فهل تدّعي أنّك مثله؟ 


فأجابه الرجل دون إبطاء: إذن أنت تعرف الفتى، وقد كذبت عليَّ بادِّعائك عدم معرفته.

رد "هو" مدافعًا: لا، لم أكذب عليك، أنا بالفعل لم أرَهُ، ولم أرَ أحدًا هنا غيرك.

فأجابه الرجل: ما دمت تعرف الخِضر، فلابُدّ أنك تعرف الفتى، وما لم يُرَ بعين البصر، يُرى بعين البصيرة. 

قال "هو" في استسلام: لم أفهم الأمر على هذا النحو. 


فأجابه الرجل وقد ازدادت ابتسامته قليلًا: على الرغم من أنك تبحث عن الحقيقة كما تدّعي لنفسك، إلا أنك لا تفهم الكثير من الأمور على هذا النحو، لازلت تبحث عن الحقيقة بأدوات الخداع، والبصر أولهم.

أحسَّ "هو" بكلمات الرجل تنفذ داخل خلاياه، وتبعث الهدوء في جسده. فانطلق لسانه قائلًا: أنا عاجز عن الوصول إلى خالقي، إنه لم يُجبني.

ردّ عليه الرجل قائلًا: أنت تبحث عنه في خارجك، بينما هو في داخلك، وقد أجابك حين قال: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).


ثم أردف: إذا نظرتَ إلى نفسك بعين البصر، فلن تراه، وإذا نظرت إليه بعين البصيرة، فسوف تراهُ. 

ثم سأل الرجل "هو" قائلًا: عندما سألت ربك أن يجعلك تعيش في الركب مثل العامّة، هل كنت تضيق بالعلم أم بالجهل؟ 

اندهش "هو" من معرفة الرجل لما كان يدور بداخله، وأجاب بعد هنيهة من التفكير: أنا أضيق من عدم الوصول.

فردّ عليه الرجل: وهل بعد الوصول قصور؟!


ثم أردف قائلًا: لقد جاء موسى إلى هنا ليسأل، ولم يكتفِ بنبوّته، فاعلم أيها الفتى أن طريق الوصول ممتد إلى أكثر مما يمتدّ هذا البحر الذي هو أمامك. ألم تسمع قول ربّك: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا


وصمت الرجل هنيهة، ثم قال: لن تنفد كلمات ربك أيها الفتى، فلا تطمع في الوصول لما لا نهاية له، وما عليك إلا التذوّق، فإن تذوّقت عرفت، وإن عرفت اغترفت من بحر جوده، ولن يُشبعك شيئًا بقدر ما سيُشبعك المسير على طريق معرفته.


شعَرَ "هو" بحلاوة كلمات الرجل تسري في أوصاله، وأراد أن يستزيد، فسأل الرجل قائلًا: وما هو تأويل ما لم أستطع عليه صبرًا؟ 

فأجاب الرجل مُداعبًا: ألا يكفيك ما سمعته؟ 

فلم يجد "هو" بُدًّا من مصارحة الرجل فقال له: أريد أن أستزيد من جمال كلامك، وروعة حكمتك. 

فأجابه الرجل قائلًا: اعمل فيما أقامك الله فيه، ولا تأسَ على ما فاتك، أو تنسَ ما خُلقت من أجله، ألم ترَ ما لاقاه محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- من قومه؟ ألم تسمع بجوعه وحصاره وطرده؟ هل سمعت بشقائه من أجل عيشه؟ هل كان هذا مهانةً من الله له، وهو الذي اصطفاه على جميع خلقه؟ ولو شاء لجعله ملكًا! هل كان هذا مهانة أم تكريمًا له؟ 


ثم أقسم الرجل قائلًا: واللهِ مَن قال إن في هذا مهانة للنبي، فليس من الإيمان في شيء، وأمّا مَن قال إنه تكريم له، فعليه أن يحذو حذوه، وإلا فإنه إلى نفاق نفسه وخداعها أقرب.


وتساءل الفتى في نفسه كيف لم يلتفِتْ إلى هذه الأمور من قبل على هذا النحو، على الرغم من سلاستها ومنطقها الذي يبدو سلسًا بغير تعقيد. وتبادر إلى ذهنه سؤال، فسأل الرجل قائلًا: أيها العبد الصالح، لماذا جئتَ إليَّ دون غيري؟ 

فأجابه الرجل: لقد جئتُ إليكَ كما جئتُ إلى غيرك مِمَّن كانوا سيضلّون الطريق لولا رحمة من ربك، ولقد أعدتُ السفينة إلى هؤلاء المساكين الذين يعملون في البحر دون أن يأخذها ذلك الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبًا، وقتلت الغلام الفاسد قبل أن يُضِلّ أبويه الصالحَينِ، وقد أبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رُحمًا، وأقمتُ الجدار للغلامين اليتيمين في القرية الظالم أهلها حتى يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما، وما أفعل ذلك عن أمري، وإنما بتقدير اللطيف الخبير. 


صاح "هو" في سرور وحماس: إذن أنت الخضر، أنت الخضر، أليس كذلك؟ 


وفجأةً اختفى الرجل من أمام "هو"، فراح يبحث حوله وهو يصيح: أيّها العبد الصالح، أين ذهبت، أيها العبد الصالح؟!


وراح يفرك عينيه علّه يستطيع رؤية الرجل، وإذا بموجة عالية ترتطم به لتغرقه تمامًا، وتبلّلَ جميع جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وفتح "هو" عينيه ليجد نفسه كما بدأ ليلته، بين وسادة وغطاء، وقد دوى صوت قرآن فجر يوم الجمعة من مأذنة المسجد القريب من منزله، وإذا بالشيخ عبد الباسط عبد الصمد يصدح في سكون الليل بآيات الذكر الحكيم من سورة الكهف قائلًا (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيهِ صَبْرًا). 


فهبَّ "هو" منتفضًا من رقاده، وراح يدورُ في أرجاء غرفته ويصرُخ دون تحفُّظ: إنّه ربي، إنه ربي! لقد كلّمني، نعم لقد كلمني! لقد أرسل الخضر إليَّ! لقد كنتُ أجلس مع الخضر! لقد حدّثني! أرسله الله إليَّ! 

لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!.


ظلَّ "هو" يقولها ويردّدها، كما لم ينطق بها من قبل. شعر أنّ لسانه ينطلق بها وكلما أراد أن ينتهي من ثورته، وجد نفسه يردّدها وكأنه لا يملك للسانه زمامًا: لا إله إلا الله! 


يشعر بالكلمة تخرجُ من أعماقه ويهتزّ لها كيانه، وهنا خرَّ ساجدًا وأناب، وبكى في حضرة ربّه كما لم يبكِ من قبل، وطالت سجدته وهو غائبٌ عن العالم، يناجي ربه بكل جوارحه، ويبثّ له آلامه وأحزانه، ليقوم من هذه السجدة وكأنه قد وُلد من جديد، ليودّع شخصه الذي تركه بالأمس إلى غير عودة، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.

تعليقات