كتبت: شيماء رشدي
يزخر تاريخ العراق القديم بعدد ضخم من الأحداث والصراعات، والحروب ومرّ خلاله عدد كبير من الملوك الذين كانت لهم قوة وسلطان في العالم القديم، وواحد من أهم هؤلاء الملوك هو نبوخذ نصر الثاني، فمَن هو ذلك الملك الذي تم تناول سيرته بكثرة في العهد القديم، بل ورسمه فنانون كبار في لوحاتهم، مثل (لويليام بليك) و (فرانسوا كزافييه) و (بيير فريتيل) الذي وضعه في لوحته الشهيرة باسم "الفاتِحونْ".
كان نبوخذ نصر الثاني الملك الثاني للإمبراطورية البابلية الجديدة، وأشهر ملوك الكلدانيين، وهم شعب دعاة إرميا "الأمّة القديمة" ولقد جلب نبوخذ نصر الثاني الشهرة والازدهار للإمبراطورية، كما أنه من أشهر الملوك الذين يذكرهم العهد القديم وأبرزهم، وأكثر الملوك المعروفين عند طلاب الكتاب المقدس.
حكم نبوخذ نصر في الفترة ما بين 605 إلى 562 ق.م. وتفاخر بأن بابل كانت مدينة عظيمة، وأعاد بناءها لتكون مدينته الملكية وعاصمة إمبراطوريته. وبحسب النصوص البابلية، فلقد نال نبوخذ نصر المديح كمشرع وقاضٍ وملك مخلص للعدل ومقاوم للظلم والفساد. وكان دافعه للعدالة هو إرضاء إلهه "مردوخ" لكي يحيا حياة طويلة.
في حين يتناقض هذا الوصف الرائع الذي يتلقّاه في النصوص البابلية، مع الوصف الذي ناله في مصادر أخرى، حيث تم وصفه في العهد القديم بالقسوة؛ حيث أنه أسر (صدقيا) آخر ملوك مملكة يهوذا من سلالة داود، وقام بقتل أولاد صدقيا أمام عينيه، ثم أمر بفقع عينَي صدقيا.
وفيما يلي سوف يتم عرض أهم المحطات التي مرّت بها حياة هذا الملك، بدايةً من تولّيه الحكم وصولًا إلى أهم أعماله:
كيف تولَّى نبوخذ نصر الحكم
حدث ذلك أثناء الصراع بين آشور وبابل، عندما اعتلى (نكاو الثاني) عرش مصر، وفي محاولة من مصر لوقف تقدُّم الجيش البابلي، استعد نكاو بجيشه، وصعد إلى نهر الفُرات لمساعدة آشور في صراعهم ضد بابل. وفي طريقه إلى كركميش، واجه نكاو (يوشيا) ملك يهوذا، الذي اتّخذ جانب بابل وقتل يوشيا، ولكن تأخّر الجيش المصري لفترة كافية سمحت للبابليين بهزيمة ما تبقَّى من الجيش الآشوري في كركميش، وأصبحوا هم القوة المسيطرة.
وفي عام 605 ق.م، عاد نكاو إلى المنطقة مع طموحات بتوسيع حكمه في بلاد ما بين النهرين. ولكن حاكم بابل في ذلك الوقت كان والد نبوخذ نصر، وكان مريضًا وغير قادر على القتال بسبب المرض الذي أدَّى إلى وفاته في النهاية، فأرسل ابنه الأكبر نبوخذ نصر لمواجهة المصريين. وفي كركميش وقعت المعركة الحاسمة بين نبوخذ نصّر والملك المصري. وهزمه نبوخذ نصّر الثاني وأخضع (صيدا) و (صور) و (فلسطين) وبلدان أخرى في سوريا وفلسطين.
وفي هذا الوقت تلقَّى نبوخذ نصر إخطارًا بوفاة والده، فترك الجيش في أيدي قادته الميدانيين وعاد إلى بابل، حيث تُوّج ملكًا على بابل في عام 605 ق.م. وبهذا النصر جعل من بابل سيدة للشرق الأوسط.
وقد قدَّم العهد القديم أكثر من وجهة نظر عن نبوخذ نصّر، فيقدّمه سفر الملوك على أنه فاتح أورشليم، حيث حاصرها ثلاث مرات:
- الحصار الأول (605 ق.م): عاقب ملك يهوذا (يهوياقيم)، وفرض الجزية، وأخذ آلاف الرهائن اليهود، بما في ذلك دانيال -أحد الأنبياء- وأصدقائه الثلاثة.
- الحصار الثاني (597 ق.م.): استعبد يهوياقيم ملك يهوذا، وأخذ المزيد من أموال الجزية، وأخذ رهائن آخرين، بما في ذلك حزقيال -نبي يهودي- وزوجته.
- الحصار الثالث: وخلاله أعمى واستعبد ملك يهوذا (صدقيا)، وأحرق المدينة، ودمر المعبد، وقام بتعيين زعيم يهودي يُدعَى (جدليا) ليحكم الشعب المُتبقّي في يهوذا، ثم أخرج العديد من الأشياء الذهبية والفضية من هيكل أورشليم ووضعها في هيكله الوثني في بابل.
أما عن علاقته مع النبي (دانيال) فهي تتمحور حول حلمين رآهم الملك، وفي الحلم الأول يُقال أن الملك رأى تمثالًا ضخمًا، رأسه من الذهب وصدره وذراعاه من الفضة، بينما كان بطنه وفخذه من النحاس وساقاه من الحديد، وقام (دانيال) بتفسير الحلم على أنه يرمز لأربع دول هما بابل وفارس واليونان وروما، وأن روما سوف تصبح القوة الكبرى. عندها ركع الملك نبوخذ لدانيال وأمر شعبه بأن يقدّموا القرابين، واعترف بأن إله النبي (دانيال) هو إله الآلهة ورفع دانيال إلى منصب رئيس القضاة في البلاط الملكي.
والحلم الثاني أن الملك قد رأى شجرة كبيرة تصل إلى السماء، وينظر لها الجميع حتى الحيوانات، ولكن فاجأة يظهر شخص ما ويأمر بقطع الشجرة، وهذا الشخص ليس إنسان عادي. وقد فسر دانيال الحلم للملك وكان تفسيره مخيفًا جدًا، حيث أن الشجرة كانت تمثل نبوخذ نصر نفسه وأن الملك سوف يعاني من الجنون سبع سنوات بسبب كبريائه وغروره ولن تنتهي هذه المعاناة إلا عندما يدرك خطاياه ويطلب المغفرة. وكانت النتيجة بعد فترة طويلة عندما أدرك الملك صحة هذا التفسير وأصدر مرسومًا يجعل تكفير وسب إله اليهود جريمة يعاقب عليها بالإعدام.
ولا يتوقّف الأمر عند انتصاراته العسكرية لجعله ملكًا قويًّا، بل وأيضًا يرجع السبب لإضافاته المعمارية، حيث بنى نبوخذ نصّر (بوابة عشتار) المعروضة في متحف بيرغامون في برلين حاليًا، وبنى معبدًا لـ(مردوخ) كبير آلهة بابل، ولعل أشهر مشاريعه هي "حدائق بابل المعلقة" التي تُعدّ واحدة من عجائب العالم القديم السبعة، ويُقال أنه بناها لزوجته (أميتس) ابنة ملك ميديا؛ لأنها اشتاقت لبلدها.
ولم تتوقّف أعماله المعمارية عند هذا الحدّ بالطبع، فقام بجعل بابل عاصمة منيعة ومُحصّنة بفضل السور الشرقي والخندق المائي اللذَينِ كانا يحيطان بالمدينة، وأعاد بناء عدد من المباني والمعابد الأخرى.
بالتالي تميّزت فترة حكم نبوخذ نصر الثاني بعدّة مميزات: أولها أنه أعاد المجد لبابل من خلال نشاطه العسكري وحملاته، وقضى على آشور التي كانت تحاول السيطرة على بابل، بل وأدخل المكاسب الاقتصادية على بابل من خلال هذه الحملات والجزية التي فرضها، أما فيما يتعلّق بسياسته تجاه مملكة يهوذا أو ملوك اليهود، فهي لم تكن سوى إجراءات للسيطرة عليهم ومنع أي أطماع تصدر عنهم، ولم تختلف كثيرًا عن السياسة التي اتبعها الملوك من قبله سوى في العدد الكبير من الأسرى الذين نفاهم إلى بابل.
وفي الوقت نفسه لم يهمل الأمور الإدارية والمعمارية في بابل، مما جعله واحدًا من أهم الملوك في التاريخ العراقي القديم.
وفاة نبوخذ نصر
أما عن وفاته فلم يكن هناك تفسير واقعي أو مؤكد لما حدث له، فبعض الروايات تخبرنا عن موته أنه أصيب بالجنون لمدة سبع سنوات، ولكن لا يوجد ما يدعم هذا ومن المحتمل أنها خيالية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما قد ورد في العهد القديم، فإن نبوخذ نصر قد مات بسلام وربما أيضًا احترم رب اليهود، حيث ورد في سفر دانيال على لسان الملك: "والآن أنا نبوخذ نصر أسبح وأعظم وأكرم ملك السماء الذي كل أعماله حق وطريقه هو القضاء والذين يسلكون بالكبرياء فهو قادر على أن يذلهم" دانيال (٤: ٣٧). وتولى حكم مملكته من بعده ابنه.