القائمة الرئيسية

الصفحات

"هانيبال" القائد الذي أثار الرعب في روما لسنوات طويلة

كتبت: شيماء رشدي

"هانيبال" القائد الذي أثار الرعب في روما لسنوات طويلة

يُعتبر هانيبال واحدًا من أقوى القادة العسكريين في التاريخ، فعبوره لجبال الألب بقوّاته وأفياله وانتصاراته الحاسمة في تراسمانيا، وكاناي قد أدَّى إلى وصول روما إلى حافة الدمار، ووضع بصمة قرطاج في التاريخ. 


تقع قرطاج حاليًا في تونس، وقد مرَّت المدينة بتاريخ طويل، فتحكي لنا الأسطورة أن قرطاج تأسّست حوالي عام 825 قبل الميلاد، على يد الملكة ديدو الهاربة من مدينة صور من شقيقها القاتل بجماليون، بينما تؤكّد الأدلة الأثرية أن المدينة قد تأسّست على يد التجّار الفينيقيين من صور في النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد. وكانت مستوطنة قرطاج جزءً من نمط الاستعمار الذي دام قرونًا من قِبَل الفينيقيين في شرق البحر الأبيض المتوسط بهدف السيطرة على التجارة المُربحة في القصدير والذهب والفضة والنحاس، حيث أنشأ الفينيقيون أكثر من 300 مستعمرة ساحلية في جميع أنحاء شمال إفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية. 


ولكن بحلول القرن الثالث قبل الميلاد، نمت قرطاج المستقلّة لتصبح واحدة من أقوى الدول في البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت ثاني أكبر مدينة في البحر الأبيض المتوسط القديم، بعد الإسكندرية -عاصمة مصر البطلمية- وسيطرت قرطاج بأسطولها القوي على التجارة في جميع أنحاء غرب البحر الأبيض المتوسط، وحتى في المحيط الأطلسي. ومع نمو حجم المدينة وقوّتها خلال القرن السابع قبل الميلاد، أكّدت تدريجيًّا استقلالها عن مدينة صور، وأسّست مستعمرات خاصة بها، ووسّعت أراضيها في إفريقيا.


تطوّرت قرطاج ببطء من مستعمرة إلى عاصمة إمبراطورية جديدة، وعلى الرغم من اتصالاتهم الواسعة مع جيرانهم اليونانيين، احتفظ القرطاجيون بلغتهم البونيقية، وهي لهجة فينيقية ولغة سامية مرتبطة بالعبرية. وكان لا يزال يتم التحدّث بها في شمال إفريقيا حتى أواخر القرن الخامس الميلادي، لكنها اختفت بعد ذلك بوقت قصير، ولم يتبقّ سوى عدد قليل من النقوش والاقتباسات المتفرّقة كشهود. كما نمت قرطاج لتصبح قوة عسكرية كبرى، وأكبر دليل هو القوة التي أظهرها القرطاجيون والرومان في الحرب البونيقية الثانية فابتداءً من عام 264 قبل الميلاد، خاضت روما وقرطاج ثلاثة حروب وحشية للسيطرة على غرب البحر الأبيض المتوسط. تُعرف هذه الصراعات مجتمعة باسم الحروب البونيقية نسبةً إلى الكلمة اللاتينية Poenus التي تعني "الفينيقية".


حينما نتحدّث عن قرطاج والحروب البونيقية، يتطرّق فورًا إلى الأذهان اسم الحاكم والقائد العسكري (هانيبال)، فمَن هو؟ وكيف وضع بصمته في التاريخ العسكري لقرطاج؟ 


وُلِدَ هانيبال أو (حنبعل) في عائلة قرطاجية مرموقة في عام 247 قبل الميلاد، ومع اقتراب نهاية الحرب البونيقية الأولى، شَنَّ (حملقار) والده، حملة في صقلية، وقام بغارات جريئة على الساحل الإيطالي، وحصل على لقب "برقا" أو "الصاعقة"، وهو الاسم الذي تبنّاه أحفاده. وبالرغم من ذلك إلا أن قرطاجة هُزمت في تلك الحرب، وساعد (حملقار) في قمع تمرّد خطير قام به مرتزقة قرطاج وحلفائها الخاضعين في شمال إفريقيا (240-238 قبل الميلاد). وبعد أن أنقذ حملقار الدولة القرطاجية، قام بتشكيل إمبراطورية جديدة لقرطاج في إسبانيا


خلال حملات حملقار في إسبانيا، وتعلّم هانيبال المهارات العسكرية التي سوف يستخدمها بشكل متطوّر ضدّ روما. وفي عام 218 قبل الميلاد، بدأت الحرب البونيقية الثانية، واستمرّت ما يقارب السبعة عشر عامًا، وهي استمرار للصراع الذي دار بين قرطاج وروما، ولكن هذه المرة كانت قرطاج تحت قيادة هانيبال، ولعل أشهر ما يُروَى عن هذه الحرب هو انطلاق هانيبال بقوّاته وأفياله إلى أوروبا وعبور جبال الألب وانتصاره في سلسلة من المعارك، أكبرها كانت معركة (كاناي) التي هُزمت فيها روما هزيمة مُدمّرة، فقد تجوّل هانيبال في جميع أنحاء إيطاليا، ودمّر في النهاية 400 مدينة، واستولى على العديد من المدن الكبيرة. 


ويُقال إنه تحت سماء الصيف الحارقة، سار أكبر جيش أرسلته روما على الإطلاق داخل إيطاليا لسحق ما اعتبروه قطيع البرابرة (جيش هانيبال) وخارج مدينة كاناي قضى هانيبال عليهم، حيث تم ذبح ما يصل إلى سبعين ألف جندي من الرومان وحلفائهم في فترة ما بعد الظُهر، وهي من بين أسوأ الهزائم التي عانت منها روما على الإطلاق، وأسوأ الهزائم التي كُتبت في صفحات التاريخ. وبالرغم من ذلك فإنها استعادت قوّتها على عكس جيش قرطاج الذي كان يقاتل على أرض غير أرضه. وتأخّرت الإمدادات في الوصول إليهم من قرطاج. 


وفي تلك الأثناء ونتيجة لهزيمة روما؛ أخذ حلفاء روما يتخلّون عنها، خاصةً مع انتصارات هانيبال. وثارت العديد من المدن الكبرى، وكذلك ثارت مساحات واسعة في جنوب إيطاليا بعد فترة وجيزة من معركة كاناي، وتم تدمير جيش روماني آخَر أثناء محاولته السيطرة على قبيلة تمرّدَت وانضمّت إلى هانيبال. وقام جيش هانيبال وحلفاؤه بقتل ما يزيد على مِئة وسبعين ألف جندي روماني فيما يزيد قليلًا عن 20 شهرًا. 


ولكن تراخت احتياطات هانيبال، وشيئًا فشئيًا عادت لروما قوّتها وتم إعادة احتلال المدن غير الموالية. ونشر الرومان أسطولهم للحدّ من التعزيزات القادمة من قرطاج، وفي النهاية تفوّقت روما في القوة البشرية والتنظيم، ونجحت في استعادة زمام الأمور. وبحلول عام 209 ق.م، كانت روما قد استعادت معظم مُدُنها، وبدأت في شنّ غارات على الأراضي القرطاجية في إسبانيا. وفي هذه المرحلة الحاسمة عانىٰ هانيبال من ثلاث انتكاسات كارثية أدّت إلى دمار قرطاج، وهي: 


1- مقتل شقيقه صدربعل، الذي كان يحاول تعزيز حنبعل برًّا. 


2- دُمِر جيشه في معركة ميتوريوس.


3- عدو قرطاج: سكيبيو الإفريقي قد أكمل غزو إسبانيا في عام 206 ق.م. 


وعندما حاول هانيبال إعادة تجميع صفوفه، طالب أهل قرطاج أنفسهم بالسلام، وإن كانت الشروط مُهينة لهم؛ حيث وافقت قرطاج على تسليم جميع الأراضي خارج إفريقيا، وألّا تشنّ الحرب إلا بإذن روماني، ودفع تعويض مالي ضخم على مدى خمسين عامًا. وتحطّمت إمبراطورية قرطاج وقوّتها العسكرية قبل أن تتحطّم بشكل فعلي ملموس في الحرب البونيقية الثالثة. وعادت روما دون منازع، باعتبارها أقوى دولة في غرب البحر الأبيض المتوسط


لِمَاذا لا نتساءَل عن احتمالية عدم وقوع تلك الحوادث؟ ماذا لو لم يفقد هانيبال الكثير من القوات والأفيال في عبور جبال الألب؟ وماذا لو لم يُقتل أخوه، ونجح في حماية ممتلكات قرطاج في إسبانيا؟ والسؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه: ماذا لو لم ينهزم أمام روما، هل كان ذلك الجزء من التاريخ سيتغير وتنتهي قوة روما قبل أوانها؟  


أما عن شخصية هانيبال، فلم تكن سوي انعكاس لأحداث عصره، فهو وفقًا للمؤرّخين القدماء شخصية عنيفة لا ترحم، وتتحدّث معظم المصادر الرومانية عن وحشيته وغضبه؛ فوفقًا للمؤرّخ الروماني ليفيوس، كان يمتلك "قسوة غير إنسانية أسوأ من المعتاد بالنسبة للقرطاجيين، وكان يتجاهل المقدسات". ولكن يجب الالتفات إلى حقيقة مهمّة، وهي أن معظم كتابات المؤرّخين دائمًا ما تطغى عليها مبالغات، وتبتعد عن الموضوعية. 


وبغض النظر عن شخصيته، فإنه كان قائدًا عسكريًّا يتمتّع بكفاءة وقدرات نادرة. وكانت لديه إستراتيجيات حربية مميّزة، فقد استطاع تكوين جيش ضمّ القرطاجيين والمرتزقة الذين تم تجنيدهم من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط القديم. وتروي بعض المصادر كيف كان ينام مُرتديًا زيّه العسكري، ويأكل الطعام كعامة الجنود، ويشاركهم معاناتهم. 


لم ينجُ هانيبال لفترة طويلة فقط؛ لأنه احتفظ بولاء الجيش إلى حدٍّ كبير، ولكن أيضًا لأنه بينما كانت قرطاج تحت وطأة شروط المعاهدة المُهينة مع روما، عمل على منع الطبقة الأرستقراطية الراسخة من استغلال معاناة سكان المدينة. وأثبت نجاحه الكبير في إعادة تنظيم الشؤون المالية القرطاجية، لدرجة أنه عرض أن يسدّد مُبكرًا إجمالي تعويضات الحرب المُستحقّة لروما. وعندما رفضت روما العرض، دبّر أعداء هانيبال في قرطاج سقوطه، مما أجبره على الفرار من المدينة. 


أما عن نهاية حياته، فقد قضى أيّامه الأخيرة هاربًا، وهرب من مكان إلى آخر، ونهايته كانت نهاية رجل قد خاض حربًا خاسرة لسنوات طويلة، ووصفه المؤرّخ بلوتارخ بكلمات قليلة، ولكنها عميقة، فقال: "طائرًا مُروّضًا وغير مُؤذٍ، كبر في السن لدرجة أنه أصبح لا يستطيع الطيران، وفقد كل شيء، حتى ريش ذيله". 


وبالرغم من ضياع جهوده العسكرية في النهاية، إلا أنه نجح في جعل قرطاج قوّة تجارية وعسكرية نابضة بالحياة، أثارت الرعب في روما لسنوات طويلة.

تعليقات