القائمة الرئيسية

الصفحات

رسالة إلى الوالد (كيف تؤثر علاقة الأب على مستقبل أولاده؟)

كتبت: أميرة ممدوح

رسالة إلى الوالد (كيف تؤثر علاقة الأب على مستقبل أولاده؟)

"كانت كتاباتي كلها تدور حولك، والحق كنت أشكو فيها ما كنت لا أستطيع أن أشكوه على صدرك. كانت وداعًا منك أطلته عمدًا". كافكا. 


إن نجاح الأشخاص أو فشلهم متوقف بشكل كبير على التنشئة، وعلاقة الفرد منا بوالديه. وكيف يصنع شكل تلك العلاقة مستقبل الفرد ونظرته للحياة وللأفكار وللأشخاص. وخصوصًا علاقة الابن/ الابنه بأبيه/بأبيها، لأنه من المتعارف عليه سلفًا أن الأم هي من تربي. ولكن ماذا عن الأب؟، ماذا عن دوره؟، ماذا عن تأثيره في حياة أبناءه. وهنا نعرض ثلاثة نماذج حية منها اثنين ملهمين ومؤثرين في تشكيل آراء غيرهم، وواحدًا كان نبض رواية لنجيب محفوظ. 


انجمار بيرجمان (مناهض البروتوستانتية الأبوية ومعارض الموت والأديان)


التوت البري، ضوء الشتاء، بيرسونا، الختم السابع وغيرها من أروع الأعمال السينمائية أخرجها للنور المخرج السويدي الرائع "انجمار بيرجمان". والتي غلب عليها الطابع الفلسفي الواضح في سياق كل تلك الأفلام. ولكن كيف توصل بيرجمان إلى هذه النظرة الفلسفية في أعماله؟ وكيف تشكلت فكرته عن الإله؟ وكيف ظلت فكرة الدين شبح يطارده في كل مكان يحاول طرده أو تفهمه أو حتى الوصول لتبرير منطقي لوجود الأديان من خلال السينما؟. 


إن كلمة السر تكمن في (والده). لقد أشعل والد بيرجمان داخله فتيل الثورة العقلية ضد الأديان وضد الرؤية التقليدية للحياة. والده كان قِسًا بروتوستانتيا متزمدًا لا يشغله إلا الخلاص والتطهر. وهكذا حاول أن يُنشيء ابنه بيرجمان، إلا أن الأخير تمرد حينما فكر وفكر حينما وُضِع داخل إطار وطُلب منه أن يسير في حدود ذلك الإطار أو بمعنى آخر حينما أُجبر أن يعيش (مُقولب). 


ولا شيء يمكن أن يعبر عن فكر بيرجمان إلا بيرجمان نفسه. عندما ظهر في حوار تليفزيوني صرح فيه عن أفكاره ونشأته كالتالي. بيرجمان متحدثًا عن نفسه: (لقد بدأت مسألة الانضباط عندي منذ الطفولة. حينها لم أكن منضبطًا مطلقًا. بينما كان والدي منضبطًا جدًا ودقيقًا وأما عني فلقد كنت كسولًا جدًا وأحلم كثيرًا. وكنت أخلط الأحلام بالواقع ولا أدري أبدًا ماذا كان يحدث لي. فلم يكن للوقت تفسير عندي).


وبعدها ينتقل للحديث عن نفسه كبيرًا فيقول: (لقد أردت أن أكون حرًا وأن أعيش حياتي. ولكن والديّ كانا يجبراني على الطاعة والخضوع لتقاليد المجتمع. ولكني لم أرد ذلك لنفسي فكانت ثورتي بترك المنزل وأنا في الثامنة عشرة من عمري ولم أعد للمنزل منذ ذلك الحين).  


بيت القصيد أن ضغط والده عليه ليجعل منه نسخة أُخرى منه، خلق في ذهنه الكثير من التساؤلات وخصوصًا مسألة الموت التي ظلت شغله الشاغل وظل يعالجها في كثير من الأفلام حتى خصص لها فيلمًا كاملًا، ألا وهو الختم السابع، عندما لعب المحارب الشطرنج مع ملك الموت وعرض سؤالًا (أيهما سيغلب الآخر؟). 


ولأن لكل إنسان وسيلته في التعبير عن نفسه وأفكاره وطموحاته واعتراضاته التي تختلف من شخص لآخر. فقد اختار بيرجمان لنفسه السينما وسيلة يُطلق من خلالها وابل أفكاره غير مبالي بنظرة المجتمع أو والده الذي ترك منزله في الثامنة عشرة من عمره ليتحرر من قيد البروتوستانت الأبوي.  


فرانز كافكا


كاتب الرواية الكابوسية الألماني فرانز كافكا، الذي عُرف بجسده الهزيل وآلامه العظيمة والتي تجسدت في أعماله الأدبية ومنها المسخ والمحاكمة والقلعة. لم يكن في الحقيقة سوى كتلة من الإحباط والذعر والقلق يمشي على قدمين بفعل ما شكله والده في نفسه منذ كان طفلًا. ووجه لوالده الطعنات الكلامية عندما كتب له رسالة طويلة جدا أطلق عليها (رسالة إلى الوالد) ورغم أن كافكا حينها كان في ذروة مجده الأدبي، إلا أنه لم يستطع أن ينسى كل العذابات والندوب النفسية التي تركها والده داخله ولم يجعله نجاحه يتخطاها. 


حاول كافكا الخلاص من سجن والده النفسي بالكتابة (ونجح بها) وبالزواج (وفشل فيها) وظل كافكا يموضع نفسه موضع الطفل المنبوذ ويحاول أن يقول لوالده أنا هنا. أنا لست عدمًا أنا طفل مطيع لماذا لا تحبني؟ ولم يقوى على لعب أي دور ببراعة أكثر من دور الطفل البائس ضحية والده.  


فيقول كافكا في (رسالة إلى الوالد): "أنا طبعًا لا أقول إنني لم أصبح الشخص الذي أنا عليه الآن إلا من خلالك. فقد يكون ذلك أمرًا مبالغًا فيه إلى حد كبير (مع أني أمْيَل إلى أن أبالغ). ومن الجائز جدًا، حتى لو كنت متحررًا تمامًا من كل سلطتك، ألا أعد إنسانًا قريبًا لقلبك. فأنا مجرد شخص ضعيف، خجول، متردد، قلق. شخصٍ ما ليس روبرت كافكا ولا كارل هرمان، بل شخص آخر تمامًا. كم كنتُ سأكون محظوظًا لو أنك كنت لي بمثابة صديق، بمثابة مدير، بمثابة عم، بمثابة جد، بل حتى (ولو أني أتحفظ على هذا) بمثابة زوج أم. أما أن تكون أبًا فكم كان هذا ثقيلًا عليّ، لاسيما أن أخويّ توفيًا مبكرًا، ولم يحن دور أخواتي في المجيء إلا بعد ذلك بوقت طويل، فكان عليّ أن أتحمل الصدمات الأولى وحدي، ولكم كنتُ ضعيفًا جدًا على احتمالها.


لنقارن بين كلينا: أنا باختصار شديد مجرد شخص لوفيني (نسبة إلى والدته جوليا لوفي) مجبول بشيء من طباع كافكاوية؛ غير أنه في حياته وشؤونه ومجالاته لا تُسيّره تلك الجبلّة الكافكاوية القوية، بل يُدار بواسطة زنبرك لوفيني، منطوٍ، ماكر أينما ولى وجهه يتورط. أما أنت فكافكاوي حقيقي يضج بالقوة والصحة وطيب الشهية والعضلات المفتولة واللباقة والرضا عن النفس والتفوق والثبات وحضور الذهن والمعرفة الإنسانية، أي بكل مكارم الأخلاق، إنما أيضًا بكل ما يصاحب تلك الفضائل من زلل وضعف تقحمك فيه مزاجيتك وعصبيتك. أما في نظرتك العامة للحياة فربما لستَ كافكاويًا خالصًا إلى الحد الذي يمكن فيه مقارنتك بعمي فيليب أو لودفيج أو هاينرش. وإنه لأمر غريب، وأنا هنا لا أرى الصورة واضحة تمامًا. فقد كانوا جميعًا أكثر مرحًا وحيوية وأقل كلفة ولامبالاة وقسوة منك (بالمناسبة لقد ورثتُ عنك الكثير منها، وإني لأحرص عليها كل الحرص وعلى الوجه الذي ينبغي. إنما بطبيعة الحال دون أن يكون لدي أي قوة مضادة مثلما لديك أنت).


من ناحية أخرى لا شك أنك في هذا الصدد قد عشت أيضًا أوقاتًا مختلفة. ربما كنتَ أكثر سعادة قبل أن يصيبك أولادك بخيبة أمل وقبل أن يثقلوا عليك البيت (فإذا ما قدم الغرباء أصبحتَ شخصًا آخر)! ربما أصبحتَ من جديد أكثر مرحّا الآن. وأحفادك وصهرك يمنحونك شيئًا من ذلك الدفء الذي لم يستطع أولادك، ربما باستثناء فيللي، أن يمنحوك إياه!.


على أية حال كان كلٌّ منا مختلفًا عن الآخر، وكان في ذلك الاختلاف خطورة تنذر، إذا ما أراد المرء أن يتوقع مسبقًا، كيف أن كلًا منا، أنا ذلك الطفل الذي ينمو ببطء وأنت ذلك الرجل الفتيّ، كان سيتصرف تجاه الآخر. إن المرء ليظن بكل بساطة أنك قد سحقتني سحقًا، وأنه لم يبق مني شيء. غير أن ذلك لم يحدث، فالحياة لم تترك لأي من تلك الافتراضات أن تحدث؛ لكن ربما حدث ما هو أسوأ! إنما أترجاك دومًا ألا تنسى أنني أبعد ما أكون عن أن أظن يومًا بأن الذنب ذنبك.


لقد تركتَ ما تركت من أثر عليَّ، تمامًا كما كان ينبغي عليك أن تترك. إنما ينبغي عليك أيضًا أن تكفّ فقط عن اعتبار أن وقوعي ضحية لذلك التأثير كان عن سوء نية من جانبي. لم أكن سوى طفل شديد الخوف، رغم أني كنت لا شك عنيد أيضًا، كما هو حال الأطفال، وكانت أمي تدللني بكل تأكيد.

 

إنما لا يمكن أن أصدق أني أنا بالذات كنت صعب الانقياد، ولا يمكن أن أصدق أن كلمة حنان أو لمسة وديعة من يد أو نظرة عطف لم يكن بوسعها أن تنال مني كل ما يريده المرء. كما أنك في الأساس إنسان مليء بالطيبة، ليِّن الجانب (ما سيلي لن يعارض أو يناقض هذا. فأنا هنا أتحدث فقط عن ظاهرة كنتَ فيها تترك أثرك عليّ). لكن ليس لكل طفل من الجَلَد والجسارة ما يمكّنه من البحث طويلًا كي يحظى بطيبتك.


 كما أنه لم يكن بوسعك أن تتعامل مع طفل إلا وفق جبلّتك التي نشأتَ عليها، أي بالقسوة والصراخ والحدة، وكان يبدو لك والحالة هذه أنها مناسبة للغاية، إذ إنك أردت أن تنشئ شابًا قويًا شجاعّا.." 


وهكذا تمخضت آلام كافكا عن مجموعة من الأعمال الخالدة التي ستبقى إلى نهاية الحياة، عندما نجح كافكا في حفر اسمه على صخر مشاهير أدباء العالم بفعل ما عاناه مع والده. وكيف حولها جميعًا إلى كلمات صارت وسارت في عروق أوراق الكتب ناقوسًا يحذر الآباء من أن يظلم من أنجب دون دراية منه بأن أفعاله قد تصنع عظيمًا محطم الوجدان. 


جعفر الراوي (الرجل الذي شكله والده بيد نجيب محفوظ)


مما لا يدع مجالًا للشك أن نجيب محفوظ من أعظم الأدباء المصريين بل والعالميين كذلك. محفوظ الوحيد الذي استطاع أن يشكل شخصيات رواياته كأنها لحم ودم. حتى تكاد ترى تاريخ الشخصية في حاضرها. تمامًا كما فعل في تشكيل شخصية جعفر الراوي في روايته (قلب الليل). 


كان جعفر فتى يعيش في حضن أمه، التي تعيش في حضن الجهل في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة. فتى لا يعرف إلا مذهب العفاريت وتيار التخلف ولم يذق إلا طعم الفقر. حتى ماتت والدته، لتنقلب حياته رأسًا على عقب فيعيش في قصر جده الفخم. ولنعرف أن والده كان غنيًا يعيش عيشة رغدة، حتى قرر التمرد والسير خلف هواه فتزوج من (دلالة) فقيرة جاهلة ضاربًا حياته المنعمة عرض الحائط وراكدًا وراء حب الموسيقى والغناء. 


عاش جعفر الراوي مع جده يحفظ القرآن ويتعلم تعليمًا نظاميًا ويحيا حياة مستقرة عاقلة. حتى طارده شبح والده المتمرد. فضُرب بعشق فتاة من الغجر الذين يعيشون على حدود المدن. فطار وراءها طالبًا يدها للزواج فطرده جده من نعيمه الأبدي. وحزن عما بدر منه عندما سار على خُطى أبيه المجنون (في نظر المجتمع). 


تزوج جعفر من تلك الفتاة الغوغائية وسكن بيت قديم في حي فقير واقتات من الغناء مع فرقة صديقه منذ الطفولة الذي كان المغني الأول ورائد تلك الفرقة ومتزوج من راقصة الفرقة. وأنجب من تلك السيدة التي تعيش حياة الحيوانات فهي شرسة متمردة مندفعة ولا تفقه شيءَ في فقة الزواج والعشرة الطيبة وتربية الأبناء. 


وهكذا عاش تعيسًا معها لم يعرف طعم الاستقرار يسهر طوال الليل مع الغناء وطوال النهار نائم لا يدري عن الدنيا شيءً حتى لو قامت القيامة فلن يشعر. 


مغزى القصة دون إطالة في سرد أحداث الرواية، أن جعفر لم يرى والده ولا مرة في حياته، ولكنه كرر نفس تجربة فشله (وكأنه شيءً ينتقل بالدم). لم يتكبد والد جعفر مسؤلية تنشئة ابنه ومع هذا شرب جعفر أفكار الأب الذي لم يراه. رغم خيالية القصة في كثير من الأحداث إلا أن محفوظ أثبت أن هناك أمور تنتقل ربما بالوراثة أو ربما بالتنشئة، فجعفر لم ينسى الحارة وظل عود والده أمام عينيه طوال حياته يعرف قصته بالروايات التي كانت تُسند إليه من (مربيته تارة ومن جده تارة). حتى شعر جعفر بأنه (ولماذا لا أكرر تجربة والدي، فمن ذا الذي يستطيع أن يُجزم أن أبي لم يعش سعيدًا؟ كلها روايات وأنا لم أراه، فالأجرب ولي حق التجربة. فلن أندم أو أندم ربما ولكن لا يجب أن أضيع فرصة حقي الشرعي والمجتمعي في التجربة).


إن مسألة اختيار أب هي بمثابة مسألة اختيار مستقبل شخص وتشكيله تمامًا كاختيار الأم، فلا مجال للتفريط في مقومات الأبوة الناجحة ولا إفراط في تولي الأم المسؤلية وحدها.

تعليقات

4 تعليقات
إرسال تعليق
  1. غير معرف9/21/2023

    الكاتبه اميره ممدوح مقال اكثر من رائع نتمني المزيد

    ردحذف
  2. غير معرف9/21/2023

    اسلوبك رائع و مبسط و الموضوع مهم نتمنى المزيد من المقالات

    ردحذف
  3. غير معرف10/03/2023

    اسلوب الادباء المخضرمين الكبار ماشاء الله لو سنحت لكي الفرصه ستصبحين كاتبه العصر شكرا لامتعانا اميره ممدوح

    ردحذف
  4. أسلوب سهل وممتع نتمنى لك التوفيق والنجاح

    ردحذف

إرسال تعليق