القائمة الرئيسية

الصفحات

أقدم حوار فلسفي بين الإنسان وذاته في مصر القديمة "الرجل الذي سئم من الحياة"

كتبت: شيماء رشدي 

أقدم حوار فلسفي بين الإنسان وذاته في مصر القديمة "الرجل الذي سئم من الحياة"

يحتوي الأدب المصري القديم على العديد من الأعمال والنصوص الأدبية التي عبرت عن المجتمع، سواء من الناحية الاقتصادية والسياسية، مثل قصة (ون آمون) التي ترجع إلى نهايات عصر الدولة الحديثة أو قصة (سنوهي) من الدولة الوسطى. أو قصص عبّرت عن الفكر الديني، وكذلك القصص التي عبّرت عن القِيَم والأخلاق، مثل قصة الأخوين. وبالطبع أدب النصائح والحكمة، مثل وصايا الملك (أمنمحات الأول) لابنه، وغيرها من نصوص التعاليم التي أظهرت عقائد المجتمع المصري القديم وتقاليده، مثل تعاليم (بتاح حتب) وتعاليم (كاجمني) وغيرها. 


وتُعدّ بردية اليأس من الحياة أو "الرجل الذي سئم الحياة"، واحدة من النصوص الشعرية التي تعطينا صورة عن المجتمع في ذلك الوقت، وهي عبارة عن نص يعود إلى فترة اضطراب كبيرة في مصر القديمة، وهي فترة الثورة الاجتماعية الأولى التي حدثت في نهايات الدولة القديمة


وتحتوي البردية على أربع قصائد شعرية تتناول حوارًا بين رجل يعاني من مرارة الحياة ويريد أن يتخلّص من حياته بحرق نفسه في النيران، ولكن تواجهه مشكلة، وهي أن (البا) الخاصة به أو روحه، عارضته وهدّدته بأنها سوف تهجره. 


وبما أن الروح عنصر أساسي في الفكر المصري، وبقاءها مع الإنسان أمر مهم. أخذ الرجل في النقاش معها وإقناعها بألّا تتركه، وأخرج لنا نتيجةً لذلك، نصًّا فلسفيًّا مُبهرًا مُكوّنًا من أربع قصائد شعرية. 


فهو نص يعرض لنا الصراع بين الإنسان ونفسه، كما يتعامل مع موضوع العزلة لإنسان لا يستطيع أن يجد مَن يتحدّث إليه من بين معاصريه، ويَئِسَ من استحالة التواصل، ويَئِسَ من المجتمع. كما يعرض لنا أفكار شخص من ذلك العصر عن الموت والعالم الآخر. 


يدّعي صاحب النص (نسو)، وهو رجل أصابه الإحباط من شرور الحياة لدرجة أنه أصبح لا يشعر بأي خير مُتبقّي في الوجود، وذاته الداخلية غير قادرة على على الشعور بأي سلام.


كما يواجه مُعضلة تتمثّل في مزاجه المتذبذب بين الأمل واليأس، ومحاولات كبيرة لإيجاد القوة التي سوف تمكّنه من التعامل مع الحياة. ولكن ليست الحياة نفسها هي التي تُرهق (نسو)، بل محاولة إيجاد وسيلة للتعامل مع صعوباتها.


يبدأ النص بقول (نسو) كيف أن روحه تعارضه، وهو يجادلها ويناقشها حتى لا تتركه. ثم في القصيدة الثانية يتحدّث بكلمات مليئة باليأس والتشاؤم: "بمن يمكنني أن أثق اليوم؟ لقد أصبح الإخوة أشرارًا، والأصدقاء لا يرحمون بمن يمكنني أن أثق اليوم والقلوب جشعة، وكل إنسان يسرق الآخر".

 

وعلى هذا المِنوال، يصف كيف أن الشر انتشر في كل مكان وهلكت الرحمة، وأن العدل أصبح غير موجود. وأنه مُتعب وتعيس وفي حاجة إلى صديق يواسيه.


وفي القصيدة الثالثة، يبدأ بمدح الموت بالدرجة نفسها من التشاؤم في الأفكار، وبراعة في الأسلوب من الناحية الشعرية، ففي أحد الأبيات يقول: "الموت أمامي اليوم مثل رجل يتوق لرؤية بيته بعد أن قضى سنوات عديدة في المنفى".


 أما القصيدة الرابعة، فهي وجهة نظره عن كيف أن موته سوف يكون راحةً له من معاناة الحياة. وفي نهاية النص تتعهّد روحه بألّا تتركه، وتواسيه وتطلب منه أن ينسى ألم الحياة وحزنها.


ومن الناحية الفلسفية، نجد أنه على الرغم من الطابع الحزين المتشائم الذي يحيط بالنص بأكمله، إلّا أنه يوحي برغبة ذلك الرجل الدفينة بإنقاذ نفسه، وإيجاد مخرج من حزنه، وذلك عن طريق التحاور مع روحه، ومناقشة كل الأشياء التي تجعله يعاني.


كما أنها تعكس كيف يؤثّر المجتمع على نفسية أفراده؛ حيث يرجع هذا النص إلى فترة عمّت خلالها الفوضى، وانتشر الظلم والموت في المجتمع المصري القديم، حيث أشار الأستاذ الدكتور (محمد بيومي مهران) أن بردية اليائس من الحياة تمثّل واحدة من أهم وثائق عصر الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفرعونية، وأنه يمكن تفسيرها على أن آلام ذلك الرجل الشخصية لم تكن سوى نموذج لما يلاقيه المجتمع الذي يعيش فيه، ويؤيّد ذلك قوله: "لمن أتحدث اليوم! فليس هناك عدول، والأرض قد تسلّمها الظالمون".


البردية محفوظة حاليًا في متحف برلين تحت رقم 3024، وقد كان العالم الألماني (أدولف إرمان) هو أول من نشرها في عام 1896م، وأيضًا ترجمها وقام بتحليلها العديد من العلماء.


تدقيق: شيماء عبد الشافي

تعليقات