القائمة الرئيسية

الصفحات

المعتزلة ومحنة خلق القرآن

كتبت: نورهان زكريا

المعتزلة ومحنة خلق القرآن

منذُ ظهور الإسلام وهو يتعرّض للفتن والمحن وظهور جماعات وتيارات بين المسلمين، ومن ضمن هذه الجماعات، ظهور المُعتزلة وأفكارها التي أثّرت في الناس ما يقرُب من قرن، وفي هذا المقال سنتعرّف كيف نشأت، وأهم أفكارها ومعتقداتِها، ومَن تأثّر بها من حُكّام المسلمين.


نشأة المعتزلة


هي فِرقة كلامية ظهرت نتيجة لتوسّع رقعة العالم الإسلامي في أواخر القرن الثاني الهجري، وتأثّرهم بالفلسفة اليونانية والبيزنطية. ويُعتقد أنها ظهرت في البصرة. غلبت على المعتزلة النزعة العقلية؛ فاعتمدوا على العقل في تأسيس عقائدهم وقدّموه على النقل، وكان من أهم المؤسّسين لهذه الفرقة (واصل بن عطاء) و (عمرو بن عبيد) و (الجاحظ) و (القاضي عبد الجبار)، وكان لها ظهور واضح عندما أيّدها الخليفة العباسي المأمون وتأثّر بأفكارها. 


الأصول الخمسة للمعتزلة


أولًا - التوحيد: كان التوحيد عندهم مقتضيًا بنفي الصفات، أي أن الله أعلم بذاته، لا بصفات زائدة عن الذات، وقد درج مخالفوهم على تفسير ذلك، بأنهم ينفون الصفات عن الله. 


ثانيًا - العدل: كانوا يعنون به العقل والحكمة، وبناءً على ذلك نفوا أمورًا وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقًا لأفعال عباده، وقالوا إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم، خيرًا كانت، أو شرًّا، وقال أبو محمد بن حزم: "إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل"، وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده.


ثالثًا - الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يُخرج أحدًا منهم من النار، فهم كفّار خارجون عن الملّة، مُخلّدون في نار جهنم. 


رابعًا - المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضّح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المُعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يُسمّى مُؤمنًا بوجه من الوجوه، ولا يُسمّى كافرًا، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مُصرًّا على فسقه، كان من المُخلّدين في عذاب جهنم.


خامسًا - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضّح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر، سواء كانوا حكّامًا أو محكومين، وقد قال الإمام الأشعري في المقالات عن المعتزلة: "وأجمعت المعتزلة إلا الأصم، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف، كيفما قدروا على ذلك"؛ فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك، وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.


معتقدات المعتزلة


- رفضوا رؤية الله في الدينا والآخرة: حيث قالوا إن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله سبحانه، وهو منزّه عن الجهة والمكان، وتأوّلوا قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، أي منتظرة، وقالوا أيضًا بأن العقل مُستقلٌّ بالتحسين والتقبيح، فما حسّنه العقل كان حسنًا، وما قبّحه كان قبيحًا، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.


- نفيهم شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمّته: حيث قال الإمام الأشعري في المقالات: "واختلفوا في شفاعة رسول الله ﷺ، هل هي لأهل الكبائر، فأنكرت المعتزلة ذلك، وقالت بإبطاله".


 

- نفيهم كرامات الأولياء: حيث قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لاشتبه الوالي بالنبي.


- نفيهم علو الله سبحانه وتأوّلوا الاستواء: واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، أي أنه لم يعلُ.


- من أهم معتقداتهم، خلق القرآن: حيث اعتبروا أن القرآن هو كلام الله، لكن الخلاف حول معنى الكلام وحقيقة المتكلم، وهل القرآن مخلوق حادث أم غير مخلوق؟ ومعنى هذا أن القرآن مُحدث وليس أزليًّا. وأصل هذه المسألة شُبهة قديمة، أراد أن يثيرها يوحنا الدمشقي الذي قال إذا كان القرآن غير مخلوق فهو أزلي، وبالمثل فإن النبي عيسى أزلي لأنهُ كلمة الله، وإن كان مخلوقًا فهو منفصل عن قدسية الله مثل بقية المخلوقات، وشبهات أخرى فاسدة بُنِيَت على علم الكلام الفاسد المأخوذ من فلسفة اليونان.


موقف الخليفة المأمون من المعتزلة


كان المأمون يجلس في مناظرات العلماء، واقتنع بها وتأثّر بها، وأرسل إلى والي بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب كتابًا مُطوّلًا فيه الدليل على صحّة هذا الرأي الذي أخذت به المعتزلة، وقد توّعد في هذا الخطاب كل من يخالف هذا القول، بأن تتم إقالته من وظيفته، وأخذ المأمون بنفسه يمتحن الفقهاء والقضاة والعلماء والقُرَّاء ليقف على رأيهم في مشكلة خلق القرآن، فمن اعترف بأن القرآن مخلوق أخلى سبيله، ومن عارضه؛ أمره أن يلتزم به. 

وقد قرّب إليه أتباع مذهب المعتزلة الذين أصبحت نفوذهم كبيرة في الدولة، وقد وصل المأمون إلى أن يثير حربًا داخلية في الدولة لتأثّره بآراء المعتزلة. ويبدو أن آراءه حول أن الخلافة يجب أن تكون لذرية سيدنا محمد ﷺ، وكانت آراؤه تتّفق مع آراء المعتزلة، وأنهم رأوا أن العلويين أحقّ الناس بالخلافة، حيث اختار (علي الرضا) الإمام الثامن من الأئمّة الشيعيّة الاثنا عشر لولاية العهد. 


معارضة الإمام أحمد بن حنبل للمعتزلة


كان الإمام أحمد بن حنبل من الذين أصرّوا على أن القرآن كلام الله عز وجل، وأنه قديم أزليّ، وليس مخلوقًا، فأمر المأمون بشدّ وثاقه في الحديد مع مجموعة كانت معه، وأرسلهم جميعًا إلى طرسوس ليبعدهم؛ حتى لا يتأثّر الناس بقولهم. وفي عهد المعتصم، تم نقل أحمد بن حنبل إلى سجن بغداد، حتى يُصدر الحكم في أمره، ثم سيق إلى المعتصم واتُّخذت معه ذرائع الإغراء والإرهاب، فما أجدى في حمله ترغيب ولا ترهيب؛ فأخذوا يضربونه بالسياط، المرة بعد الأخرى، ولم يُترك في كل مرة حتى يُغمى عليه، ويُنخس بالسيف فلا يحسّ، وتكرّر ذلك مع حبسه نحو ثمانيةٍ وعشرين شهرًا، فلما استيئسوا منه أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته، وقد أثخنته الجراح، وأثقله الضرب المُبرح المتوالي والإلقاء في غيابات السجن. 


وبعد أن عاد أحمد بن حنبل إلى بيته استقر فيه، وكان لا يقوى على السير، واستمر منقطعًا عن الدرس والتحديث ريثما التأمت جراحه، واستطاع أن يخرج إلى المسجد، فلما رُدّت إليه العافية وذهبت وعثاء هذه المحنة عن جسمه، مع بقاء آثارها؛ مكث يُحدِّث ويُدرّس بالمسجد حتى مات المعتصم. 


وعندما تولّى الواثق بالله لم يتبع أسلوب المعتصم في الترهيب أو السجن، بل لا يجتمع بالناس ولا يخرج إلى الصلاة حتى مات الواثق، أي بعد خمس سنوات، وعندما تولّى المتوكّل، قام بإنهاء تلك المحنة التي وقعت بأهل السنّة، وقال عنه بن الجوزي: "أطفأ المتوكل نيران البدعة، وأوقد مصابيح السنّة"، وذلك في سنة 234هـ. 


مصر ومحنة خلق القرآن


لم تتعرّض مصر لِمَا تعرّض له العراق من تعذيب واضطهاد، وربما يرجع ذلك إلى بُعدها عن مركز الخلافة. فلم يحاول المصريّون الخوض في هذه المسألة، شأنهم في ذلك شأن موقفهم تجاه الفِرَق الإسلامية الأخرى، مثل الشيعة والخوارج والقدرية والحبرية والمرجئة، حيث لم يبتعدوا عن خط أهل السنة. 


كان الأمر سهلًا في أيام المعتصم، ولكن الواثق اشتدّ في مسألة المحنة؛ حيث كان يمتحن الناس جميعًا، وعندئذٍ عارض كثير من المصريين المحنة، وثاروا ضدّها؛ فمُلئت منهم السجون، كما هرب الكثيرون، وقد أُمر محمد بن أبي الليث الخوارزمي قاضي مصر أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، وقد منع الفقهاء، من أصحاب مالك والشافعي، من الجلوس في المسجد.


وكان ممّن هرب من علماء مصر المشهورين، ذو النون بن إبراهيم الأخميمي، لكنه وقع في يد قاضي مصر محمد بن أبي الليث الخوارزمي، فأقرّ بخلق القرآن.


وممّن امتنع عن القول بخلق القرآن أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المصري، صاحب الإمام الشافعي؛ فحُمل إلى بغداد وظلّ مُمتنعًا عن القول بخلق القرآن، وبقيَ محبوسًا هناك إلى أن تُوفّي في سنة. 231هـ. وعلى أيّة حال، فإن المصريين لم يقاسوا بسبب المحنة إلا في عهد الواثق (227-232هـ)، أي خمس سنوات، وقد أبطل المتوكل هذه المحنة بعد ولايته بسنتين، أي في سنة 234هـ.


المصادر:


الدولة الإسلامية في العصر العباسي الأول لـد: أحمد الشامي.


موسوعة مصر عبر العصور، أعد نشرها الدكتور: عبد العظيم رمضان.


تدقيق: شيماء عبد الشافي

تعليقات