القائمة الرئيسية

الصفحات

الشبابُ المقهور بينَ واقعٍ مرير ومُستقبلٍ مجهول

كتبت: سلوى حجازي

الشبابُ المقهور بينَ واقعٍ مرير ومُستقبلٍ مجهول


أملٌ ضائعٌ


في السنوات الأخيرة، ولا سيّما بعد أحداث الربيع العربي وما نتج عنها، اجتاحت موجات من الاكتئاب، واليأس الكثير من الشباب؛ فالطموحات والأحلام الوردية التي كانت في المخيلة تحطّمت على صخرة الواقع الأليم.


فما أن أنهى الشاب دراسته الجامعية، إلا وقد وجد نفسه في هوة البطالة السحيقة، عبئًا على الأسرة وعلى نفسه، لم تؤهّله كل تلك السنون التي قضاها في أروقة المدارس لسوق العمل الذي باتت متطلباته لا تستوعب غير النُخبة المؤهّلة التي لم تتلقَّ تعليمًا مجانيًّا، إن كان يُطلق على مثل هذا الشيء تعليمًا أصلًا، ولكنه في واقع الأمر ليس سوى تخدير مرير يُوهم الناس بأن الحكومات تفعل شيئًا ما ممّا يعطيها مبررًا سخيفًا للوجود.


مبررات الوجود


كانت الحكومات تسوّق نفسها عن طريق الخدمات المهترئة التي تقدّمها، والوعود المستمرة بتحسينها، ولكن زمن ذلك قد ولَّى إلى غير رجعة بعدما استجابت الدول العربية لسياسات العولمة، وفتحت الأسواق أمام المنتج العالمي في مقابل تدمير المنتج الوطني الذي لا يصمد أمام كفاءة وجودة وسعر المنتج المستورد، وفي ذلك تدمير من جهة أخرى لفرص عمل الشباب وقطع لمصادر أرزاقهم.


من جهة أخرى استجابت دول العالم الثالث لسياسات الهيكلة التي فرضها صندوق النقد الدولي، والتي تقضي بعدم تقديم الحكومات لأي خدمات مجانية، وتوفير النفقات بدلًا من ذلك لخدمة الديون التي اقترضتها نُظُم الاستبداد وأنفقتها على أمنها وقهر شعوبها.


الإنسان المقهور


في كل تلك المعمعة يخرج الشباب بكل طاقته المُتّقدة ليجد أمامه اللاشيء إطلاقًا سوى الفراغ المادي، والمعنوي، والوجودي، فلا قضية يقاتل من أجلها، ولا هدف يسعى وراءه، ولا مُستقبل يحيا ليصنعه، ولا حياة كريمة تستحق الانتظار، فقط مزيد من الانتظار المرير المليء بالخيبات والإحباطات، تطحنهم رَحَى الأيام التي لا ترحم، وترافقهم الأزمات باختلاف أنواعها في تكاتف مثير للعجب، وتتنوّع المصائب التي تحيط بهم، وكأن الدهر عندما أراد أن ينتقم لم يجد سواهم!


فوق كل هذا يجد نخبة مُصطفَّة تتوارث الامتيازات، وتهدر الموارد، وتستأثر بالكثرة الكثيرة، ولا تترك لهم سوى الفُتَات العَفِن.


رحلة الموت


وفي ظل تلك الغمامة السوداء التي لا يبدو أنها ستنقشع في القريب العاجل يجد الشاب نفسه في غربة عن وطنه، وأسرته، ونفسه، وذاته ويحاول أن ينسى همومه، أو يصنع مستقبله في مكان آخر غير ذلك (الوطن) الذي أهدر كرامته، ودمَّر أحلامه، واستباح إنسانيته، فيهاجر إلى بلاد الأحلام في رحلة يقابلها الموت، يعلم أنّه قد يموت في سبيل الوصول إلى وطن بديل على أمل أن ينتزع فيه جزءًا من كيانه المُستباح، ويحافظ فيه على القدر الباقي من إنسانيته، وإذا لم يحالفه الحظ، فالموت أفضل بكل تأكيد عن العيش في وطن قد قتله حيًّا.


حياة ميّتة


أما من فقد كل أمل في أن يحيا بكرامة، فلم يعد يرى شيئًا في الكوب لينظر إليه، وإن وجد فلا يرى فيه سوى مزيد من الخيبات، والهزائم التي لا ترحم، فيحاول أن ينسى، يهدر وعيه بكامل إرادته، ويُغيّب عقله اختيارًا، ويحاول أن يموت وجوديًّا قبل أن يموت بيولوجيًّا، ولِمَا لا إن كانت في جرعة المخدر الذي يتناولها شعور وهميّ باللذة والعظمة والتعالي على الدنيا وهمومها ومشاكلها، ولذلك تجد انتشار المخدرات في الدول الأشدّ فقرًا وقهرًا، هو الأعلى على مستوى العالم، ولِما لا إن كانت ستنتشلهم من واقع أليم لا يرحم، وليس هناك أمل في تغييره من وجهة نظرهم!


يتبع ذلك بكل تأكيد المزيد من الجرائم والعنف والقهر، وتدور منظومة القهر والاستبداد لتطال المجتمع بأسره، فيصبح مجتمعًا محطمًا مقهورًا فاقدًا الإرادة، مُستلبًا الوعي، فاقدًا الهمّة لأي تغيير، أو ساعيًا لصنع مستقبل أفضل.


نُظُم التجريم والتحريم


وفوق كل هذا وذاك يجد الشباب أنفسهم بين مطرقة نُظُم الاستبداد وقهرها وسجونها، وبين سندان رجال الدين الذين يحاصرونهم بآيات التحريم والتفسيق والتكفير لواقعٍ هُم ضحاياه بكل الأحوال، دون أن يكون للسلطة التي صنعته نصيبًا من جهنمهم، يصبح الشباب ضحايا لواقع لم يساهموا أبدًا في صنعه، وعندما حاولوا تغييره حاصرتهم نُظُم التجريم والتحريم وقضت على أحلامهم المنشودة وحطمتها.


ولكي تكتمل المنظومة، ولأن نفسيات البشر تختلف وجب أن يُوجد رجال الدين الذين يدعون إلى ملذات الدار الآخرة لأن الدنيا حقيرة بالطبع (اتركوا لهم الدنيا ولنا الآخرة)، هناك حيثُ الدار الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ألا يكفيكم هذا؟!


هؤلاء الذين تم صنعهم لتخدير الشباب عن بيع الوطن، واستلاب ثرواته، وتدمير طاقاته بخطاب ديني معسول، يضعون حبة المُسكّن في كأس الحياة المرير، كي يخدّرون وعي الناس ليناموا ويحلموا بواقع أجمل بديلًا عن مصائب الحياة المتوالية، وعصابته الحاكمة.


هؤلاء المُتّشحون بأثواب الدين كي يضيعوا الدين والدنيا هم شرار الخلق، ولولاهم ما قام استبداد ولا ارتفع، ولا تمكّن الظُّلم ولا مكث.


الشبابُ هُمُ الحّلّ


في تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عام 2002، يُعتبر الإنسان الأساس الأول في أي تنمية حالية أو مستقبلية، والمحور الأساسي للتنمية في المنطقة العربية، حيث أشار التقرير إلى أنه لن تقوم قائمة للبلدان العربية إلا بتنمية شبابها البالغ 65% من إجمالي السكان في الوطن العربي.


بحسب التقرير يقع 90% من سكان الوطن العربي تحت خط الرفاه الإنساني، ما يعنى أن الغالبية العُظمَى من شعوب المنطقة العربية مهدورة الكرامة، مهضومة الحقوق، لا تُحترم إنسانيتها، ولا تُراعَى حرياتها الأساسية.


وفي الجانب المعرفي حدّث ولا حرج، فقد ضرب العرب المثل في فشلهم التقني والمعرفي، فضلًا عن تدنِّي نُظُم التعليم في العالم العربي.


ولكن يبقي السؤال المُريع، إذا كانت المُنظّمات الحكومية قبل الخاصّة تعلم أن أُسُس التنمية في المنطقة العربية تتمحور بشكل أساسي حول تنمية الإنسان، وبناء قدراته العقلية والنفسية، فلماذا ذلك الإصرار المحموم على تدميره وإقصائه وتهميشه؟!


لماذا دائمًا يُصوَّر المواطن على أنّه العبء على الدولة، وعلى الوطن، برغم أن الحقيقة غير ذلك إطلاقًا؟!


ترى مَن المُستفيد الأول من هدر كيان الإنسان، وهضم إنسانيته، وتدمير كرامته، ونسف فكره؟!


ثمنُ الوعي


مُنذُ القِدَم والحكام يستخدمون الإلهاء كإستراتيجية مقصودة لصرف نظر شعوبهم عن بعض القضايا التي تسبّب لهم حرجًا لن يستطيعوا التملّص منه، ولكن أن يصبح الإلهاء وتسطيح الوعي، وهدر الفكر، وتسفيه العقل هو الثقافة السائدة، فهذا ما لم يكن في الحسبان.


يقول علماء النفس المعاصرون: إن للوعي وظيفتين أساسيتين، هما المراقبة والتوجيه.


وظيفة المراقبة تتمثّل في رصد الواقع المُحيط بهدف إصلاحه، وتطويره، والرُّقي به إلى الأفضل.


والتوجيه تكمن وظيفته في ابتكار الحلول، ووضع الأهداف وحل المشكلات لما يطرأ على الواقع.


ولأن بقاء نُظُم الاستبداد في السلطة منوط بصرف الشعوب عامةً، والشباب خاصةً عن بيع الوطن، ونهب مقدراته فلا بُدّ إذن من صرف الاهتمام عن القضايا الكبرى التي تضرّ بالأنظمة، وتركيزها على قضايا وهمية تشغل الشعوب، وتُهدر فكرها، وتُسطّح وعيها.


ومن هنا كان الإغراق في ثقافة التسلية والمُتَع الوقتية المُنفلتة من أي ضوابط، وتصدير بطولات وهمية كالبطولات الرياضية للشباب على أنّها إنجازات قومية، أمرًا ضروريًّا لبقاء الأنظمة، ولمواصلة مسيرتها.


ولأن مسيرتها مُستمرّة كان لا بُدّ أن تصبح على المدى الطويل إستراتيجية الإلهاء تلك أكثر إحكامًا، وأشد وطأة على كل أفراد المجتمع، ولا سيّما بعدما تطوّرت نُظُم الاتصالات وأصبحت جرائم النُّظُم لا تُخفَى على أحد، فكان في المقابل تسطيح الوعي بشكل أكبر، وهدر الفكر ضريبةً لا مناصَ منها ولا مفرّ.

تعليقات