كتبت: نصرة سيد
أرغبُ فِي إرسالِ بَاقَةٍ مِنْ اليأسمينَ إليكَ؛ لأنَّكَ وهبتَ لِي ذلكَ القلبَ الفولاذيَّ الَّذِي لا يعرفُ الحُبَّ والأملَ، أصبحَ قلبًا آخرَ، قلبًا بلا قلبٍ، أرغبُ حقًّا فِي مُكافأتِكَ؛ لأنَّكَ قتلتَ تِلْكَ الطفلةَ الَّتِي كانتْ تنظرُ إليكَ بفرحٍ كأنَّكَ كُلُّ الدُّنيَا، استطعتَ أنْ تقتلَ تلكَ السَّذَاجَةَ، ثُمَّ صنعتَ مِنِّي امرأةً لَيْسَتْ كبقيَّةِ النساءِ، لَقَدْ كَانَ شُعُورِي مَعَكَ شُعُورًا طُفُولِيًّا لَا يستحقُّ البُكاءَ عليهِ، ولَا تستحقَّ تلكَ النفسُ الَّتِي قتلتَهَا الرِّثَاءَ.
الآنَ أقِفُ شامخةً مثلَ جبلٍ، كنتُ سخيفةً أرَى الجمالَ فِي عَينَيكَ، والحنانَ فِي نظراتِكَ، والحُبَّ فِي لمساتِكَ، والأملَ في أنفاسِكَ، لكنَّك علَّمتَنِي يا سيِّدِي أنَّ كُلَّ هذا هراءٌ، ولا وجودَ لَه، كُنْتُ أثقُ فِي كُلِّ الناسِ بسهولةٍ، لكنَّكَ علَّمْتَنِي أنَّهُ لَا أَحَدَ يستحقُّ الثقةَ، لَا أَحَدَ يستحقُّ الحُبَّ، لَا أَحَدَ يستحقُّ أَنْ نَحْيَا مِنْ أجلِهِ سِوَى أنَا، تلكَ الأنَا الَّتِي أهملتَهَا وقتلتَهَا وضحَّيتَ بهَا بعدَ أَنْ أغلَقْتَ عليهَا دَاخِلَ قَفَصٍ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ ذهبتَ أنتَ لتستمتعَ بالحياةِ، وتركتَ ذلكَ القفصَ فِي بَحْرِ الحياةِ وحيدًا، كانتْ الأمواجُ تُلاطِمُنِي، وأنَا في سكرَةِ العشقِ مخمورَةٌ لَا أرَى إلَّاكَ ولا أسمعُ إلَّا صَدَاكَ، ولمَّا هدأتِ الأمواجُ تسرَّبَتْ إلَى قلبِي، دقَّاتُ قلبِكَ تهتفُ باسمِهَا، أَوْ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ بِأسمائهِنَّ؛ فهُنَّ كُثُرٌ، مَرَّتْ عَلَيَّ السِّنينُ حَتَّى استطعتُ استيعابَ أنَّكَ لستَ معِي حقًّا، هَرَعْتُ إلَى دَفتَرِي الوحيِدِ، وجدتُكَ بينَ كُلِّ حُرُوفِهِ تَسكُنُ وبحثتُ فِي دفاتِرَكَ الكُثُرِ وجدتُّنِي كلمةً عَلَى الهَامِشِ تعودُ إليهَا وقتمَا تشاءُ.
والآنَ أقولُهُا لَكَ صَرِيحَةً، لَا وألفُ لَا يَا سيِّدِي، لستُ أنَا وَلَا هذَا مَكَانِي، فأنَا ملكةٌ ولَا أقبلُ عَنِ العَرْشِ بديلًا، إذَا اخترتَ أيُّهَا العبدُ الآبِقُ أنْ تسكُنَ بينَ الجوارِي، فلَكَ ذلكَ، لكنْ قلوبَ الملكاتِ خُلِقَتْ ليسكنَهَا السلاطِينُ. أمَّا أنتَ فَقَدْ عرفتَ مكانَكَ الَّذِي تستحقُّ، فلَكَ ذلكَ غيرَ مَأسُوفٍ عليكَ، لَقَدْ شَعَرْتُ حقًّا بالأسَفِ، لكنْ عَلَى تلكَ العصفورةِ الَّتِي وقعتْ بينَ يَدَي خائنٍ خسيسٍ، لا يعرفُ الرَّحمةَ، ولَا الأمانَ.
ولا أُخفِيكَ حديثًا، حينمَا تفقدُ المرأةُ الأمانَ، فهِيَ تُغادِرُ مهمَا كانَتِ الْخسَائِرُ تدفعُهَا بِكُلِّ رِضًا؛ لأنَّهُ لَا شيءَ يستحقُّ أَنْ نَبقَى إذَا انعدمَ الأمانُ، وأنتَ يَا سيِّدِي سَلَبْتَ مِنِّي كُلَّ شيءٍ، والآنَ بعدَ أنْ غادرتُكَ، أُحاوِلُ ترميمَ نفسِي مِنْ جديدٍ لِأَكُونَ أَقوَى.
هلْ تعرفُ أنَّ لكَ عَلَيَّ فضلًا كبيرًا؟! الآنَ، وبعدَ أنْ تخلَّصتُ مِنْكَ وَمِنْ قلبِكَ، وَبَعْدَ أَنْ شُفِيتُ مِنْ إدمانِكَ هَرَعْتُ إِلَى مكتبتِي عَلَى استحياءٍ، كُنْتُ أخشَى ألَّا تسمحُ لِي كُتُبِي بإزالةِ الغبَارِ عنهَا، وَأَنْ تُغلِقَ دُونِي صَفَحَاتَهَا بِكُلِّ قسوةٍ، كمَا قسوتُ عليهَا بالهَجرِ حينمَا تعلَّقتُ بأستارِكَ، وسِرتُ خَلفَكَ كالعمياءِ، لكنْ مَا حَدَثَ كانَ عَلَى العكسِ تمامًا، فَتَحَتْ لِي ذرَاعَيهَا واحتضنتنِي بشوقٍ وحُبٍّ، فَجَلَسْتُ معهَا أستأنِسُ بها. فغَسَلَتْ عنِّي غربتي، وأنَا غسلتُ عنهَا التُّرابَ بِدُمُوعِي مِنَ الْفَرَحِ.
إنَّ الوفاءَ الَّذِي يُمَيّزُ تِلكَ الصفحاتِ لا يُوجدُ لدَى الكثيرينَ مِنَ البَشَرِ. جَلَسْتُ هُنَا ساعاتٍ وساعاتٍ، لَمْ أَشعُرْ بِجُوعٍ وَلَا نُعَاسٍ وَلَا حتَّى الوقتِ. عَلِمْتُ جيدًا أنَّ رُوحِي كَانَتْ عَطشَى إلى كُتُبِي، وجدتُ هنَا ورداتٍ يانعاتٍ كُلَّمَا اقتطفتُهَا زادَ جمالُ رُوحِي ونورُ عقلِي وقلبِي.
هَلْ تَذْكُرُ يومَ أنْ تقابلنَا للمرَّةِ الأولَى، كيفَ فُتِنْتُ بِكَ، ولماذَا تزوّجتُ مِنْكَ؟! لأنَّكَ كُنْتَ دائمًا تحملُ معكَ كتابًا، علمتُ أنَّكَ تحملُ عقلَكَ وَقلبَكَ بينَ دفتيهِ. وحينمَا أهديتَنِي إيَّاهُ كُنْتُ أنامُ وأنَا أقرأُ فيهِ، لَا يُفارقُنِي، كُنْتُ أشعرُ كأنَّنِي أَحمِلُ بينَ يَدَيَّ مِفتَاحَ قلبِكَ وعقلِكَ، لكنَّكَ يَا سيّدِي أهملتنَا معًا، ونسيتنَا معًا.
كُنْتُ أَشعرُ أحيانًا أنَّ الكِتابَ يَحِنُّ إليكَ، إلى نَظْرَةِ عَيْنَيْكَ بين سُطُورِهِ، كُنْتُ أَضَعُهُ خِلسَةً فِي حقيبتِي، بَيْنَ أغراضِي، وأخرجُ أجلسُ معهُ عَلَى شاطئِ النَّهرِ الصَّغيرِ فِي أوَّلِ قريتِنَا الجميلةِ، نتجاذبُ أطرافَ الحديثِ، وَحِينَمَا يَسألُنِي عَنْكَ كُنْتُ أقولُ "يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ"، ثُمَّ أنسحبُ مِنَ الحديثِ؛ خِشْيَةَ أنْ يرَى دُموعِي فتُؤلِمُهُ، ثُمَّ يأتِي وقتُ السَّحَرِ يُنادِينِي لنتحدَّثَ. أذهبُ إليهِ بِكُلِّ شَغَفٍ، اقرأُ وأقرأُ، ولكن حينمَا تَقَعُ عَيْنَايَ عَلَى هامشِ الكتابِ أرَى آثَارَ أصَابِعَكَ تتساءَلُ عَنْكَ...
كنت أدعو لك، وأردد: يهدي الله لنوره من يشاء، اللهم إنِّي أسألك أن تردَّهُ إلينا ردًّا جميلًا، ثم أخبرك: هل تعلم ما هو الرد الجميل؟ هو أن يرسل الله إليك آيةً تردُّك إليه بدون أن يبتليك بمصيبة تجرُّك إليه جرًّا، لكنك لا تسمع منِّي أبدًا، أنت تركت كتابك وتركت أحبابك، الآن نحن نعيش معًا بعيدًا عنك، لكننا نسمع صوت روحك ينادي عليك أن تعود، هل تذكر أول كلمات كتبتها لك؟
محبوبي...
حينما أراك أشعر بأنِّي اكتملت، أعودُ مُفعمّة بالمشاعر، مقلتي تختبئ في غرفتها لا تريد أن ترى أحدًا، أو يراها أحد، عندما تلامس عينايَ صفحةَ وجهِكَ
تتراقصُ روحي كعصفور
تعزف أوتار قلبي لحنَ السعادة، تغرّد كرات دمي في كورال متناسق، تلك الأغنية المجيدة التي نظّمتها مهجتي، فأمضي ليلتي بداخل القمر لأراك وأنت تحلم أحلامًا ورديّة.
لا أنزعج حينما لا تراني في أحلامك، في الصباح أغتسل بنهرٍ من رحيق الحب، وأمر عليك لأذكّرك بي، وأزرع بذور حبِّي في حقول فؤادك.
أخبرتني يومها أنك تشعر بالنشوة من فرط السعادة، والحقيقة أن تلك السعادة كانت في قلبي أنا؛ لأن كلماتي أعجبتك ونالت رضاك. لكنك بعد ذلك كنت تقول: لا تكتبي إلّا لي وحدي، كنتَ تغارُ من القلم والدفتر، أو هكذا كنت تزعم.
أصبحتُ لا أكتب إلّا خلسةً، دون أن تراني، ورويدًا رويدًا نسيتُ دفتري وأقلامي، وامتنعت عن الكتابة حتّى جف القلم، وجف ينبوع المشاعر النابض، وتاهت مني الحروف.
كانت كلمةٌ واحدة منك كفيلة بعودة كل هؤلاء للحياة، لكنك كنت شحيح حتى في القول، لم أكن أعرف وقتها السبب، لكن الأيام علمتني كلَّ ما أخفيت أنت عني تحت زعم العشق والغيرة، تعلّمت كلَّ ما لا أستطيع قوله لك في وجهك؛ خوفًا من أن أجرح قلبًا كنت أسكنه يومًا، حتى لو كان هو قاتلي، فقلبك هذا لا يصنع إلا الخناجر الغادرة التي تقتل الأخضر واليابس في بستان الحياة.
يا مُلهِمِي، يا عاشقَ السهرِ
لقد كان حُبُّكَ سطورًا في القدرِ
وأحرقَتْ تنهيداتِي الشَّجَرَ
واشتعلت نيرانُ الهوَى
في قلوبِ العاشقينَ مِنْ النَّوَى
فإلَى متى سيظلُّ قلبِي حزينًا
وينزفُ قلمي دموعَ الأنينِ
وفي سوقِ الغرامِ أبيعُ أشجانِي
لأشتري عشبًا يداوي وجدانِي
فدموعُ قلبِي أنبتت عشبَ الصحارِي
يا سيّدي...
لقد اصطلَى قلبِي بنارِ هواكَ
وعشقَتْ عينايَ حِرمانَكَ وجفاكَ
فسبحانَ مَنْ بالجمالِ أهداكَ
وأبدع حسنك وبهاكَ
فشكيتُ للقمرِ مدى أساكَ
ويا لَوعتِي، فلقد حُرِمْتُ رِضَاكَ
وَهَامَتْ عينايَ تُرثِي عينَيكَ
حينما كتبت تلك الكلمات تركت دفتري مفتوحًا على مكتبك، لعلّك تراها، كنتُ أرجو أن يرقّ قلبك لي، وأن يهيج وجدانك من الشوق إليَّ، لم أكن أرغب أن تأتي معتذرًا، فقط كلمة رقيقة كانت قادرة على محو كل شيء، كانت تفتح لك دفترًا جديدًا في قلبي وروحي، وليست صفحةً واحدة، لكنها لم تأتِ، لم تقل لي يومها إلا تعليقًا ساخرًا، كنتَ تسخرُ من حروفي، وفي الحقيقة كانت السخريةُ من مشاعري التي بذلتها لك، أعرف أنِّي لست شاعرةً، وأنا لم أخبرك أن تلك السطور كانت شعرًا، حتَّى أنِّي عنونتُها بـ "خاطرة"، لا أكثر.
الآن أيّها العبد الآبق قد وهبتك إلى من يستطيع أن يمسك بك، أعلنتها صريحةً، أنِّي تنازلت عنك لمن يمسك بك، ولكنِّي أرجو ألَّا تفلتك كل الأيادي، وتسقط في ظلمات الجبِّ بدلًا من نور الحب.
يقولون ستظلُّ تسامح من تحب حتى تكرهه عن قناعة، تلك مقولةٌ صادقة تمامًا، فأنا أعرف ذلك من تجربتي، مع تعديل بسيط، وهو أنِّي لا أكرهُك هل تعرف لماذا؟ لأنّك لا تستحقَّ مشاعري، حتى شعور الكره لا تستحقّه.
اعتقدتُ يومًا أنّك ستظل ذكرى جميلة، أو حتى ذكرى مؤلمة، لكنِّي الآنَ أُلقِي بِكَ على أوراقِي؛ حتى أتخلص من ذكراك. فبعد أن أنتهي من الكتابة، لا تبقى لك ذرةٌ عالقةٌ بِي، لقد تحرَّرتُ من قيودِكَ وعنتريتك الفارغة، وجبروتك الذي يغذِّيه ضعفُكَ.