القائمة الرئيسية

الصفحات

ثقافة البناء الجديد

 بقلم: عاطف دبل

ثقافة البناء الجديد

بدأت التجربة المصرية عن طريق مشاريع ما يطلق عليها "البنية التحتية"، وهو المصطلح الذي يشير إلى أن تقوم الدولة بمسؤولياتها لتوفير ما يتطلبه الاستثمار والحياة الكريمة للمواطن، وأذكر حينها تطلعات الشارع المصري للتوجه لملفيّ الصحة والتعليم على اعتبار أنهما نواة بناء الدول، في غيبة أننا كنا نعيش في "أشلاء دولة" وهو الوصف الذي اختارته القيادة السياسية للتعبير عن حالة ما قبل مرحلة البناء.


عندما طرحت فكرة بناء عاصمة إدارية جديدة، سأل أستاذي لمادة الجغرافيا وكنت طالب في المرحلة الثانوية، "أين تعتقد أن تقع العاصمة الجديدة؟"، وتهافت الطلاب بالإجابات، أحدهم يقول في الإسكندرية، ومن يجلس بجانبه يقول في الوادي الجديد، وآخر يقول في الأقصر، ورابع يقول في جنوب سيناء...


هنا تدَّخل الأستاذ مجددًا، كل ما تتحدثون بشأنه هو "نقل" للعاصمة، وما طُرِح كان "بناء" العاصمة، ومن المفترض أن تكون الإجابة عبارة عن إحداثيات موقع على الخريطة ليتم البناء عليه وليس نقل العاصمة من محافظة لأخرى.


هنا أدركت معنى "البناء الجديد"، لمّا تم طرح فكرة بناء "عاصمة إدارية جديدة" لمصر، صاح الناس بأنها باعتبار أنها مليارات سيتم هدرها في الصحراء، ولكن بنظرة أخرى تجد أن تدخل الدولة بتمهيد بنية تحتية، ونقل الأجهزة الحكومية والوزارات إلى مباني جديدة بمظهر وتنظيم متحضر يليق بالدولة المصرية، وكذلك بناء المساجد والكنائس وقصر رئاسي، هذه الخطوات المكلفة، تجعل أرض صحراء بلا قيمة مادية تتحول لمنطقة متميزة يرتفع سعرها لأعلى قيمة، وجدت أنه أعظم استثمار مادي.


لم تكن التجربة المصرية تسعى للاستثمار المادي فقط أو للاستثمار في الحجر كما يقولون، وإنما أرادت فكرة نقل الجهاز الإداري والحكومة للعاصمة الجديدة بمثابة نقلة نوعية، فتجد مثلا مدينة للبحوث، دار أوبرا جديدة، مقر قيادة الدولة الاستراتيجي وقيادة الجيش بما يليق بجيش هو الأقوى في منطقة تعج الصراعات وعدم الاستقرار، وكذلك اللمسات الفرعونية في شكل وتنسيق المباني يستدعي المجد القديم، وحي على النسق اللاتيني، ومركز مصر الحضاري، والبنية التكنولوجية للمدينة في إطار التوجه نحو ما يعرف ب "الرقمنة" أو "الميكنة".


العاصمة الجديدة في الامتداد الطبيعي للقاهرة شرقًا بعد القاهرة الجديدة وعلى قرب من منطقة السويس، في صحراء مصر الشرقية، بما يفتح المجال لتعمير المنطقة بين حرم قناة السويس المخطط للاستثمار والصناعة وبين القاهرة، ومراعاة مشاريع الربط البري، بالإضافة للمحاور والطرق الرئيسية، تم إضافة المونوريل والقطار فائق السرعة للربط بين منطقة السويس والعاصمة الجديدة والعاصمة التاريخية إلى العلمين عاصمة مصر السياحية، في جانب من مراعاة الجانب السياحي والتجاري (نقل البضائع) بالإضافة للجوانب الاقتصادية للمشروع.


أكبر المساجد وأفخم الكنائس، تذَّمَر البعض من فكرة إهدار أموال في مثل هذه المباني، هنا وجبت الإشارة إلى أن هذه المباني تمثل أوتاد الحضارة والأثر الباقي لكل جيل، فما دلنا على عظمة القدماء إلا معابدهم وأن أعظم آثار الأرض وعجائبها، أهرامات الجيزة، قيل أنها مقابر الملوك.


تجد دومًا في عصور البناء مثل هذه المباني الضخمة التي تشير إلى مجد هذا العصر، بالإضافة إلى الميزة الاستثمارية التي أشرنا إليها من قبل.


"سيتركون العاصمة القديمة تحترق بأهلها ويذهبون لعاصمتهم الجديدة"، جُملة قد كتبت في "يوتوبيا" أحد روايات الدكتور أحمد خالد توفيق، واعتمدها معارضي المشروع كشعار لحملتهم ضد المدينة الجديدة، لكنها جملة روائية لا تعبر عن واقع، فقد أهملت العاصمة القديمة بما يكفي على مدار العقود السابقة، حتى انفجرت في شكل عشوائيات ومناطق خطرة وغير آدمية، ازدحام يفتك بالتحضر حتى حجب الشمس عن المدينة العظيمة.


ساكن القاهرة قد يقضي نصف عمره في الطريق، وليس من المنطق أن نضيف لهذا البؤس موكب مسؤول أو ضيف يقتضي استقباله بعض المراسم فيتم غلق بعض الطرق، ومن هنا وجب التحرك وبسرعة؛ لإنقاذ ما تبقى من هذه العاصمة التاريخية، وإنقاذ الناس من هذه المناطق الخطرة، مثل هذه المناطق تنتج أجيال أقرب للتدمير من البناء، أقرب للتكفير من الإيمان، وأقرب إلى القتل من الفن.


بناء الأجيال و "الاستثمار في البشر" يبدأ بتوفير البيئة المناسبة للتنشئة الصحيحة وصياغة المعتقدات وفتح باب الإبداع.


تم اقتحام هذه المشاكل بالآتي...


وضع مخطط شامل لإنقاذ القاهرة عاصمة مصر التاريخية.


مشروع لنقل الحكومة والجهاز الإداري خارج المدينة.


توفير بديل مناسب لسكان المناطق الخطرة.


إزالة هذه المناطق من على خريطة العاصمة.


إعادة تأهيل الميادين والاهتمام بالمباني التاريخية.


يا سادة، كنت قد اعتادت عدم الخوض في الجدالات السياسية عن قناعة بعدم جدواها، وتعلمت عدم إعلان الآراء غير المفيدة، وكذلك رفضت الانتساب لأي توجه، لكن رأيت في هذا المشروع الكثير من الجوانب التي تستحق الدعم والفخر بما تم الوصول إليه، وبالتعقل وكما يتمثل المصريون "بالورقة والقلم"، هو مشروع يستحق التحية.

تعليقات