آخر الأخبار

مؤسّس الدعوة العباسية "أبو مسلم الخراساني"

كتبت: نورهان زكريا

مما لا شك فيه أن أبا مسلم الخراساني أحد أهم الشخصيات المؤثرة في التاريخ؛ حيث كان العمود الأساسي في حركة العباسيين ضد الأمويين، لما بذله من جهد ودهاء في هذه الحركة، وقال عنه المأمون: أجل ملوك الأرض ثلاثة، الذين قاموا بنقل الدول، وهم: الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم. ويرى بعض المؤرخين أن نهايته لم تكُن مناسبة له بعد هذا المجهود، ويرى آخرون أنها مناسبة له تمامًا بسبب كثرة عدد القتلى الذين سالت دماؤهم، والتي قُدرت بستمِئة ألف قتيل، وفي هذا المقال سنتكلم عن نشأته، وكيف قاد حركة العباسيين، والعداوة التي أدَّت لقتله. 


النشأة والتسمية


يجمع المؤرخون أنه وُلد في عام 99 هـ/ 717 م، وذكر ابن خلكان أنه وُلد يوم ولد عمر بن عبد العزيز. وقد اختلف المؤرخون في نسب أبي مسلم الخراساني، فقيل إنه كان حرًّا، واسمه إبراهيم بن عثمان بن بشار، وكنيته أبو إسحاق. وقد ذكرت بعض الروايات أنه من أحفاد آخر الأكاسرة الساساني يزدجرد الثالث، والذي بدوره تنبَّأ بعودة الحكم لأحد من ذريته. وُلد في أصفهان ونشأ بالكوفة، حيث رحل إليها وهو ابن سبع سنوات مع والده الذي كان من أهل رستاق فريذين، من قرية تُدعى سنجرد.


اتصال أبي مسلم بالإمام إبراهيم


يُقال إن أبا مسلم كان من الرقيق، حيث كان يخدم عيسى بن معقل العجلي وأخاه إدريس، فاشتراه بكير بن ماهان داهي العباسيين منه بأربعمِئة درهم، وأرسل به إلى الإمام إبراهيم، الذي أرسله بدوره إلى أبي موسى السراج، حيث سمع منه العلم وحفظ عليه. ثم سار إلى خراسان فاستقر بها، طلب منه الإمام أن يغيّر اسمه؛ لأن أمر الدعوة لن يتم إلا بهذا، فسمَّى نفسه عبد الرحمن، وتكنَّى بأبي مسلم، وقيل إن الإمام هو الذي سمّاه بهذا الاسم. وكانت حرفة أبي مسلم صناعة السروج، وكان يبيعها في أصبهان والموصل والجزيرة ونصيبين وآمد. وعندما بلغ التاسعة عشر زوّجه الإمام إبراهيم بابنة عمران بن إسماعيل الطائي المعروف بأبي النجم، وكانت بخراسان مع أبيها، ومكث عند الإمام الإبراهيمي يقوم على خدمته. 


انضمام أبي مسلم إلى الدعوة العباسية


أخذ الإمام يرسل أبا مسلم من حين إلى آخر إلى خراسان ليتصل بمن يثق بهم من عصبيته من الخراسانيين، حتى وثق الإمام إبراهيم به، وتأكَّد من أنه هو الشخصية التي يعتمد عليها في دعوته، فزوَّده بتعليماته ونصائحه ووجهه سنة 128 هـ إلى خراسان للاستقرار بها، والاستعداد لنشر الدعوة فيها. 


إظهار الدعوة العباسية


في سنة 129 هـ بعث الإمام إبراهيم بكتاب إلى أبي مسلم، وبكتاب آخر إلى سليمان بن كثير الخزاعي، فوصل الكتابان إلى أبي مسلم وهو في مدينة قومس أثناء مسيره إلى الإمام إبراهيم وقد كان مضمون الكتاب الموجّه إلى أبي مسلم "إني قد بعثتُ إليك براية النصر، فارجع من حيث لقاك كتابي، وابعث إلى قحطبة بما معك من أخبار توافيني بها في الموسم". فعاد أبو مسلم ومن معه من الدعاة وتوجّهوا إلى خراسان فوصلوا عاصمتها مرو ليسلّم الكتاب الثاني إلى سليمان بن كثير، فلما قرأه سليمان وجد تعليمات الإمام بأن يُظهر الدعوة ولا يتأخر في إظهارها، ففعلوا ما أمروا به، ولبسوا السواد شعار العباسيين ورفعوا الرايات، فاجتمعت عليهم أهالي قرية سفيذنج التي نزل عليها أبو مسلم، وأهالي القُرى المحيطة بها، وتم ذلك في الخامس والعشرين من رمضان سنة 129 هـ، ثم ما لبث أن تقاطر عليه الدعاة في جموع هائلة ممن انتظموا في الدعوة العباسية. 


انتساب أبي مسلم إلى الرسول ﷺ


مارس أبو مسلم نشاطه كزعيم للخراسانيين، وحين قويَ أمره وصلب عوده وأصبحت له العصبية من الخراسانيين، استغل حديثًا كان قد وجهه إليه الإمام إبراهيم، حيث قال له "يا عبد الرحمن، إنك رجل من أهل البيت" فادّعى أنه من سليط بن عبد الله بن عباس، وشجّعه على ذلك أن سليطًا هذا كانت له جارية ادّعى ابنها أنه من ولد عبد الله ابن عباس، ولما تُوفي سليط نازع ابن الجارية ورثته في الميراث ففرح بنو أمية، واتخذوا من هذا الموضوع وسيلة وسببًا للتعريض بعلي ابن عبد الله بن العباس والحط من شأنه، وساعدوا ابن الجارية حتى قضى له قاضي دمشق بالميراث. ويبدو أن أبا مسلم أراد من انتسابه إلى العباسيين أن يُضفي على نفسه أصلًا عربيًّا، ويلحق نفسه بالنسب النبوي الشريف، حتى يكسب نفسه الشرعية الواجبة في الحكم والخلافة، التي كان يطمع في الوصول إليها، خاصةً بعد أن قويَ نفوذه وازداد سلطانه وأصبحت له الكلمة الأولى والأخيرة في خراسان، فاستغل التعبير الذي قاله الإمام إبراهيم وزعم لنفسه هذا النسب. 


اشتعال نار العصبية بين المُضرية واليمنية


كانت اليمنية بزعامة أسد بن عبد الله القسري الذي كان واليًا على خراسان من قِبَل الأمويين والذي مال إلى اليمنية وأسند إليهم كل مناصب الولاية. فلما وليَ نصر بن سيار أمر خراسان وكان مضريًّا عزل اليمنية واستعان بعصبته من المضريين. وكان نصر بن سيار والكرماني على حالة من الصفاء والوفاق، نظرًا لأن الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان؛ لأن الكرماني كان أشبه ما يكون برئيس المدينة في خراسان. فلما وليَ نصر بن سيار عزل الكرماني عن منصبه لأخبارٍ بلغته عنه، ثم أعاده، ثم عزله، ثم أمر بحبسه. ولكن أتباع الكرماني أخرجوه من سجنه عن طريق فتحة ثقبوها وفروا به هاربين. 


استغلال أبي مسلم نار العصبية


قويَ نفوذ أبي مسلم وازداد خطره، وكان الكرماني وأتباعه ضد هذه الدعوة، وأنهم يكرهون أن تسقط الخلافة الأموية، وفي هذه الأثناء حاول نصر بن سيار أن يضم إليه شيبان الحروري الساعد الأيمن للكرماني، ولكنه أخفق في مسعاه. وكان أبو مسلم قد أرسل النضر بن نعيم الضبي (أحد أعوانه) إلى مدينة هراة، وكان عليها عيسى بن عقيل الليثي عاملًا لنصر بن سيار فطرده منها، وخرج عيسى مهزومًا وتوجَّه إلى نصر بن سيار وأخبره. وقد خشيَ أتباع الكرماني على أنفسهم أمام قوة أبي مسلم المطرودة، فلجأوا إلى مصالحة نصر، وتوحّدت كلمتهم للوقوف في وجه أبي مسلم. وعلم أبو مسلم بذلك، فعمل على تفريق كلمة العرب ليسهل عليه ضربهم، حيث أرسل أبو مسلم إلى الكرماني مَن يذكّره بما فعله نصر بن سيار بأبيه حيث قتله وصلبه، وقال له: "يقول لك أبو مسلم: أما تأنف أن تصالح نصرًا وقد قتل بالأمس أباك وصلبه، ما كنت أحسبك تجتمع مع نصر في مسجد تصليان فيه"، فألهبت الحفيظة صدر الكرماني على نصر، فانسلخ عنه وانضم إلى أبي مسلم الخراساني. وهكذا استطاع أبو مسلم بمهارته ودهائه أن يبث هذا الانقسام ويستغله لصالحه، فاستمال اليمنية إليه، لضرب كل فريق بالآخر. 


استعانة نصر بن سيار بمروان بن محمد


ضرب أبو مسلم معسكره ظاهر مدينة مرو عاصمة خراسان، وظل ثلاثة أشهر نشِط خلالها فجذب الموالي الخراسانيين حوله، وتمكّن من الاستيلاء على أجزاء من هذه البقاع دون أن يدخل في حرب مع خصومه. أحسَّ نصر بتغلغل الدعوة في البلد الذي يتولّى أمرها ومدى خطورة موقفه، وكان نصر آخر الولاة المخلصين للدولة الأموية، فرأى أن يطلب العون من مروان بن محمد ويشرح له الأمور، وكتب عن قوة وكثرة جنود أبي مسلم وتخوّفه منهم، وختم بالأبيات الآتية:

أرى بين الرماد وميض جمر يُوشك أن يكون له ضرام

فإن لم يطفئها عقلاء قوم يكون وقودها جُثث وهام

فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها كلام

أقول من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام 

فإن يكُ قومنا أضحوا نيامًا فقُل قوموا فقد حان القيام.


ولكن مروان كان مشغولًا بحروب الخوارج في العراق لإخماد بعض الفتن في الشام، فكتب إلى نصر بن سيار يقول له: "إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فأحسم أنت هذا الداء الذي ظهر عندك". كذلك أرسل نصر كتابًا إلى يزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق من قِبَل الأمويين، لكي يستمد منه العون والمساعدة، ولكنه كان مشغولًا أيضًا بما لديه من فتن الخوارج


هزيمة نصر بن سيار أمام أبي مسلم


عندما تأكّد أبو مسلم من قوّته بعد تنظيم جيوشه، وتجهيز معسكره وتحصين موقعه، أعدّ عدته وأرسل إلى نصر كتابًا يجرح مشاعره، وهدّده بزوال ملك الأمويين في خراسان، وأراد أن يكون ردّه عمليًّا، فأرسل جيشًا لمحاربته، ولكنه هُزِمَ ووقع قائده بعد أن جُرح، وهو مولى لنصر بن سيار ويُسمَّى يزيدًا، فعامله أبو مسلم معاملة طبية، ثم خيّره بالبقاء عنده أو الذهاب إلى نصر، فاختار يزيد العودة إلى نصر، لكن أبا مسلم أخذ عليه عهدًا بأن يقول ما رآه حقًّا، وكان أبو مسلم يرى من ذلك فائدة كبيرة له ولجنوده؛ لأنه سيرد عنهم أهل التقى والورع الذين كانوا يظنون أن أبا مسلم وجنوده من المجوس وأن حركتهم ضد الإسلام والمسلمين. 


دخول أبي مسلم مدينة مرو عاصمة خراسان


كانت خطة أبو مسلم أن يتقدّم الكرماني بالهجوم أولًا حتى يتأكد من صدق نواياه وإخلاصه، وحتى لا يفقد الكثير من جنوده، ونفّذ الكرماني ما طلب منه ولما حميَ وطيس القتال واشتدت وطأته على الفريقَين، دخل أبو مسلم بجنوده مدينة مرو، وزحف إلى دار الإمارة يوم الخميس 10 جمادى الأولى سنة 130 هـ، وهو يتلو الآية الكريمة (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه). ثم أمر الفريقين بالتوقف عن القتال ودخول معسكره. 


هروب نصر بن سيار


عندما أحس نصر بالهزيمة والفشل في توحيد صفوف العرب ضد خطر الموالي، وفشله في إيقاظ الخليفة أمام تحركات أبي مسلم، ولم ينجح في تحريك ابن هبيرة ليمد له العون والمساعدة، فكان لا بُدَّ من الفرار، ففر وليس معه إلا ولده وزوجته وحاجبه والحكم بن نميلة النميري، فترك زوجته وولده تميمًا في قرية يُقال لها النصرانية وهرب بنفسه، فوصل إلى قومس ومنها اتجه إلى الري فأقام بها أيامًا، ثم مرض مرضًا شديدًا فحُمل إلى ساوه بالقرب من همذان حيث مات هناك، ويُقال إنه مات في الطريق وهو ذاهب إلى الري، وكان يبلغ عمره الخامسة والثمانين عامًا. 


التخلص من زعماء اليمنية


عندما اطمأن أبو مسلم إلى حدٍّ كبير إلى ما أحرزه من انتصار، بدأ يتخلص من زعماء اليمنية الذين تحالفوا معه وساعدوه ضد المضرية، وحاربوا نصر بن سيار، فقد أرسل عثمان شقيق الكرماني إلى بلخ ليكون عاملًا عليها، ثم ما لبث أن أرسل رجلًا من أتباعه يُدعَى أبو داود واسمه خالد بن إبراهيم ليقتل عثمان وأصحابه جميعًا، كذلك قام أبو مسلم الخراساني بقتل الكرماني بعد أن لجأ إلى مكيدة ليتخلص بها من كل أعوانه والمقربين منه، حيث تظاهر بالرضا والامتنان لمساعدتهم الفعّالة، وطلب من زعيمهم الكرماني أن يسمّي له خاصته ليوليهم أعمالًا، ويأمر لهم بجوائز وكسوةٍ، فلما سمّاهم الكرماني له قتلهم أبو مسلم ثم الكرماني معهم. 


اكتشاف الخليفة محمد بن مروان صاحب الدعوة العباسية


أخذ أبو مسلم يواصل زحفه حتى دنت له خراسان كلها، ثم أرسل إلى الإمام كتابًا ليخبره فيه بنبأ انتصاراته، وما أصبح عليه الوضع في خراسان، ولسوء الحظ وقع الخطاب في يد بعض أتباع الخليفة مروان الذين دسّهم في الطرقات ليقفوا على خبر الإنسان الذي يدبّر هذه الفتن، وليعرفوا لصالح من تكون هذه الثورات، وأحضر حامل الكتاب أمام مروان وهو مرتاع، ولكن مروان هَدَّأ من روعه، ودفع إليه مالًا كثيرًا، وطلب منه أن يسلّم الكتاب إلى الإمام وألا يخبره بشيء مُطلقًا، وأن يتلقَّى منه الجواب ويأتي به إليه، وفعل الرجل ما طلبه منه، وتأمّل مروان جواب إبراهيم إلى أبي مسلم، وكان بخط يده، وفيه يأمر أبا مسلم بالاجتهاد والحيلة على عدوه وأن يقتل من يتشكّك فيه. 


القبض على الإمام ووفاته


كتب مروان من الجزيرة إلى عامله على دمشق الوليد بن معاوية بن عبد الملك أن يكتب إلى عامل البلقاء ليسير إلى الحميمة ويقبض علي إبراهيم بن محمد بن علي، ويشدّ وثاقه ويبعث به إليه في خيل كثيف، وتم فعلًا ما أمر به مروان في أول عام 132 هـ، وأودع الإمام إبراهيم في السجن في حران، ولبث به حتى مات بالطاعون، وقيل إنه مات مقتولًا بلبن مسموم. 


تسليم الإمامة إلى أبي العباس


شعر الإمام إبراهيم بقرب نهايته على يد مروان، فعهد إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمد بمواصلة السير بالدعوة، وعقد له الإمامة من بعده، وأمر بالمسير إلى الكوفة وأمر أهل بيته بالمسير معه، ونصحهم بالسمع والطاعة له.


موقعة نهر الزاب والقضاء على الدولة الأموية


أرسل أبو العباس جيشًا كبيرًا بقيادة عمه عبد الله بن علي للقضاء على مروان بن محمد، وجهّز أيضًا مروان جيشًا بلغ عدده مِئة وعشرين ألف جندي. عبرت جيوش العباسيين النهر والروح المعنوية تسيطر عليهم على عكس حال جنود مروان التي انهارت عندهم، وبالرغم من أعدادهم وأسلحتهم الهائلة سقطت القلاع من أيديهم، وسرعان ما أصابت الهزيمة جيش مروان بعد تبعثر جنوده وتخلخل صفوفه، وأصبحت موقعة نهر الزاب موقعة فاصلة في تاريخ الدولة الأموية، حيث فُتحت أبواب الشام بعدها أمام الدولة العباسية الناشئة. 


هروب مروان بن محمد


انسحب مروان ومعه فلول من جيشه إلى الموصل وتتبّعه عبد الله بن علي بجيش العباسيين، ولم يجد من أهل الموصل ترحيبًا أو تعضيدًا، فاضطر إلى مواصلة انسحابه إلى حران، وكان وراءه جيش عبد الله بن علي فاستسلم عاملها أبان بن يزيد بن محمد بن مروان ابن أخيه وزوج ابنته، ودخل في طاعة العباسيين ولبس شعارهم، ثم سار إلى حمص فأعانه أهلها في أول الأمر ثم بعد ذلك ثاروا عليه عندما رأوه منهزمًا، ولكن مروان أخضعهم ثم اتجه إلى دمشق، وكان عليها الوليد بن معاوية بن مروان وهو زوج ابنته كذلك، فأبقى عليه وأمره أن يقاتل العباسيين، وأن يجمع حوله أهل الشام. وتقدّم الجيش العباسي وحاصر دمشق حتى سقطت في يد عبد الله بن علي، ودخلها العباسيين عنوةً يوم 6 رمضان سنة 132، وقتلوا أعدادًا كبيرة منهم عاملها الوليد بن معاوية، وأمر عبد الله بهدم سور المدينة حتى لا يتحصَّن أهل المدينة بداخلها. 


القبض على مروان بن محمد في مصر


واصل الخليفة بن محمد تقهقره حتى وصل إلى نهر أبي فطرس بفلسطين، وفي هذه الأثناء وصلت أوامر الخليفة العباسي أبي العباس إلى عمه عبد الله بملاحقة مروان بن محمد ولا يدعه يستقر في مكان حتى لا يقوى، ويستعيد تنظيم نفسه وصفوفه ويعاود الهجوم عليهم. وقد مدَّ أبو العباس بجموع من الجند، على رأسهم عمه الثاني صالح بن علي، والذي ترك له قيادة الجيش ويبقى عبد الله في دمشق يدبّر شؤونها، ويكون عاملًا عليها. سار القائد الجديد بالجيش حتى وصل إلى فلسطين، ومنها انحدر نحو العريش التي قد وصلها مروان بن محمد، وعندما أحس مروان بملاحقة العباسيين له، واصل الزحف نحو الجنوب ونزل في قرية بوصير في بني سويف، وعندها أدركه الجيش العباسي. وفي ظلام الليل هاجمه الجيش والقلة القليلة التي كانت معه فأفنوهم وقتلوهم عن آخرهم، وكان ذلك في 28 من ذي الحجة سنة 132 هـ. ثم قُطعت رأس آخر خليفة أموي وحملها يزيد بن هانئ إلى عبد الله بن علي في دمشق، فبعث بها إلى الخليفة العباسي بالكوفة. فلما وُضعت أمامه سجد لله ثم رفع رأسه وقال: "الحمد لله الذي أظهرني عليك، أظفرني بك، ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين". وبذلك يكون أبو العباس نجح في إسقاط الدولة الأموية، وتخلص من العقبة الكبرى، ولم يبق أمامه سوى عقبة ثانية متمثلة في ابن هبيرة. 


ابن هبيرة (العقبة الثانية


كان يزيد بن عمر بن هبيرة يمثّل خطرًا على الدولة العباسية لما له من مثابرة وقوة لا يُستهان بها، وقائدًا مغوارًا، وقد حدثت حروب بينه وبين الجيش العباسي في واسط وتحصّن بها أحد عشر شهرًا، وقد وصله خبر قتل الخليفة الأموي، وكان ابن هبيرة قد يئس من إحراز النصر على العباسيين، ومن ناحية أخرى أدرك أبو جعفر المنصور مدى الاضطراب الذي أصاب ابن هبيرة، ولكنه كان يعرف جيدًا أن لديه قوة الإرادة وصلابة الرأي. 


عهد بين الطرفين


 لجأ أبو جعفر إلى المساومة الدبلوماسية، وجريت محادثات عن طريق سفراء له، وكتب المنصور لابن هبيرة كتاب أمان، وبعث إلى أبي العباس فأمر بتوقيعه وختمه. والتزم جعفر المنصور بالعهد الذي أعطاه، لدرجة أن أبا جعفر رفع الستر بينه وبين ابن هبيرة واطمأن إليه، ولكن أبو مسلم كان له رأي آخر. 


تفريق أبو مسلم بين أبي العباس وابن هبيرة


كتب أبو مسلم إلى أبي العباس يقول: "إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد، لا والله، لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة". فكتب أبو العباس لأخيه يأمره بقتل ابن هبيرة فأبى أبو جعفر أن يُقدم على هذا الأمر، وكتب لأخيه يقول (والله لتقتلنه أو لأبعثنّ إليه من يُخرجه من حجرتك ثم يتولى قتله). ولكن أبا جعفر اضطر إلى تنفيذ أوامر أبي العباس، وأخذ يلتمس الخطأ لابن هبيرة، ولكن لسوء الحظ كان ابن هبيرة يتحدث إلى المنصور، وقال له يا هذا، وكانت زلة لسان تعوّد عليها ابن هبيرة في أحاديثه، وأدرك ابن هبيرة الأمر لتوه، وأسرع يعتذر للمنصور عن هفوة اللسان، ولكن أبا جعفر اتخذها حجة وذريعة ليتخلص من ابن هبيرة. 


التخلص من ابن هبيرة


دبّر أبو جعفر مكيدة للتخلص من ابن هبيرة، حيث بعث إليه رجالًا ليستولوا على أمواله، ودلّهم ابن هبيرة على الخزائن، وأرسل أبو جعفر رجالًا إلى ابن هبيرة ليأتوا به، وعلم ابن هبيرة بغدره، وكان معه ابنه داود، وبعض من مواليه وابن صغير يجلس في حجره، واتجه الرجال نحوه، فتصدّى لهم حاجبه فضربوه ثم قتلوا ابنه داود، وأقبلوا نحوه فقال لهم: دونكم هذا الصبي ونحّاه جانبًا، ثم خرَّ ساجدًا فقتلوه في سجوده، ثم قُطعت رؤوسهم جمعيًا، وحُملت إلى أبي جعفر، وبذلك تمكّن العباسيون من إزاحة العقبة الثانية والأخيرة من طريق استقرار دولتهم. 


العداوة بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم


على الرغم من مكانة أبي مسلم عند أبي العباس إلا أن أبا جعفر كان يحرّضه على قتله، ويقول له: "لا سلطان لك ما دام هناك أبو مسلم، أطعني واقتل أبا مسلم، فوالله إن في رأسه لغدرة". وكان من الطبيعي أن يتأثّر الخلفية أبو العباس بكلام أخيه، فبدأ يحقد عليه، ولكنه كان يفكر في المتاعب التي قد تحدث له ولدولته إذا قتله، ومن ناحية أخرى، حاجة الدولة الناشئة له ولجهوده ولجنوده من الخراسانيين.


الخلاف على إمارة الحج


 وقد ظهر تغيّر العباس على أبي مسلم عندما أراد أبو مسلم أن يحج ومعه عشرة آلاف من خاصته، وكان يفكّر في أن تكون إمارة الحج له هذا العام، ولكن أبا العباس كتب له أن يصحب معه ألف جندي فقط من أتباعه، لأن طريق الحج لن يتحمّل هذا العدد الكبير من الجنود، وفي الوقت نفسه كتب إلى أبي جعفر أن يحج هذا العام 136 هـ، لتكون له الإمارة بدلًا من أبي مسلم الذي رغب فيها. خاف أبو مسلم من تعليمات الخليفة فأخذ الحيطة، ولجأ إلى حيلة وفرق ثمانية آلاف من جنوده فيما بين نيسابور والري ليكونوا على مقربة، وجمع أمواله وحفظها بالري، ومنها خرج في ألف جندي من خاصته كما أمره العباس، فلما وصل إلى مقر الخلافة استقبله أبو العباس وأكرم نزله وطيّب خاطره، وقال له: "لولا أن أبا جعفر سبقك وطلب أن يكون أميرًا للحج هذا العام، لجعلت الإمارة إليك هذا العام". وكان من الطبيعي أن يتبرّم أبو مسلم من هذا الصنيع، فعبّر عن تبرمه بقوله: "أما وجد أبو جعفر عامًا يحج فيه غير هذا!" 


بذور العداوة بين أبي مسلم وأبي جعفر


يرى بعض المؤرخين أن سبب العداوة بين أبي مسلم وأبي جعفر هو استخفاف أبي مسلم بالمنصور وهو ولي العهد، وكان يكتب له "من أبي مسلم إلى أبي جعفر" دون أن يقترن اسمه بولاية العهد، وعندما تأتيه كتب أبي جعفر المنصور ينظر فيها ثم يُلقى بها إلى مالك بن الهيثم فيقرأها ثم يضحكان استهزاءً. وعندما كان أبو جعفر المنصور على ولاية الحج لم يعطِهِ أبو مسلم بالًا أو التفاتًا، وكان يتصرف كما لو كان هو الأمير، فكان يأمر بإصلاح الطُّرُق، ويسارع في تقديم الهبات والعطايا حتى أصبح ذكر  أبي مسلم على كل لسان، كما أنه تقدّم بموكبه على موكب المنصور أثناء طريقهم للحج، وعند العودة أسرع بالرجوع ولم ينتظر المنصور، وكان ذلك سببًا في تلقيه نبأ وفاة الخليفة أبي العباس قبل أن يعرفه المنصور، وعندما أرسل إليه يعزيه كانت رسالته جافة، ولم يهنِّئ المنصور بالخلافة كما جرت عادة الرسائل في مثل هذه المناسبات. 


خوف المنصور من أبي مسلم


كان أبو مسلم يقدّم اسمه على اسم الخليفة في الرسائل التي كان يرسلها إليه، وكان خوف أبي جعفر مبنيًّا على ما كان قد ادّعاه أبو مسلم، أنه من ولد سليط بن عبد الله بن العباس، ومعنى هذا أنه ينتسب إلى بني هاشم، وأنه على قدم المساواة مع المنصور وغيره من العباسيين. لذلك لجأ المنصور إلى الحيلة والمكر والتدبير ليبعده عن مركز قوته وحصنه المنيع خراسان. 


خطة أبو جعفر المنصور للتخلص من أبي مسلم


انتهز أبو جعفر وجود أبي مسلم في شمال الشام بعد نجاحه في القضاء على ثورة عمه عبد الله بن علي، وأراد أن يمنعه من العودة إلى خراسان، فعيّنه واليًا على الشام ومصر، وأرسل إليه يستقدمه، واستشعر أبو مسلم ما يدبّر له، وأعلن عن رفضه وكتب إلى الخليفة، وعبّر له عن اعتراضه وأحرجه وأوحى إليه بأنه يستشعر ما يدبّره له في الخفاء، ولكن المنصور كتب إليه ينكر عليه شكوكه ويهدّئ من روعه، ولم يكتفِ المنصور بهذا، بل طلب من شيوخ بني هاشم أن يكتبوا إليه ليحذّروه من المعصية والحضور عند الخليفة، ويحرّضونه على الطاعة للمنصور وتقديم فروض الولاء والطاعة وإبداء الاعتذار له. 


رفض أبو مسلم الذهاب إلى الخليفة


لم يكن أبو مسلم بالرجل اللين أو القائد السهل المنال، وقد ازداد حذرًا من المنصور. وهنا غضب المنصور منه فأرسل إليه أبا حميد المروروذي وقدّم حلّه، وكلّمه بأحسن الكلام وأخذ يعظّم مكانته عند أبي جعفر ويُطمّعه ويمنيه ويغريه، ومع هذا لم تلِن قناة أبي مسلم، خاصةً بعد أن نصحه أتباعه بعدم الذهاب إلى الخليفة، وقال لأبي حميد أن يرجع إلى الخليفة وأنه لن يأتي. عندئذٍ أبلغه أبو حميد رسالة التهديد والوعيد التي تلقّاها على لسان الخليفة، فلمّا سمعها أبو مسلم وجم طويلًا وانهزم رعبًا. وواصل أبو جعفر التضييق على أبي مسلم، فاستمال إليه نائبه في خراسان وأوعز إليه بالخروج على أبي مسلم ووعده بالولاية مكانه، فأخذ هذا النائب يدفع أبا مسلم ويحرّضه على الذهاب إلى أبي جعفر المنصور، وتقديم الاعتذار له، وهو يعلم ما ينتظره في بلاط المنصور. 


محاولة طمأنة أبي مسلم


توجّه أبو مسلم -على كُره منه- إلى لقاء الخليفة الذي انتقل إلى المدائن على -نهر دجلة- ليكون قريبًا منه أثناء وصوله، وأرسل إليه وزيره أبا أيوب المورياني ليستقبله وأمره، وأمر المنصور الناس أن يرحبوا به، وحسن استقباله حتى تنزل عنه مخاوفه ويطمئن. ولما وصل إليه ودخل عنده أكرمه وقرّبه من مجلسه، وسمح له بالاستراحة في خيمة خاصة أعدّها له. 


قتل أبي مسلم


أمر المنصور رئيس حرسه الخاص عثمان بن نهيك ومعه أربعة أشداء بالتخفّي وراء الستائر في مجلسه، فإذا ضرب بيده على الأخرى (صفّق) خرجوا وضربوا أبا مسلم بسيوفهم حتى يقتلوه. فلما حضر أبو مسلم مجلس المنصور، وكان متوحشًا بسيفه، استدرجه المنصور وجرّده من سلاحه بحجّة رغبته في رؤية هذا السيف الذي غنمه من عمه عبد الله بن علي، وأخذ المنصور يقلّب السيف بين يديه، ثم وضعه تحت وسادته، وبذلك أصبح أبو مسلم تحت رحمته لأنه أعزل لا يملك سلاحًا. ثم أخذ المنصور في محاكمته وتوجيه التهم إليه بالتأنيب، وكان مما ذكره أبو جعفر هو قتله سليمان بن كثير داعي دعاة بني العباس وادّعاؤه أنه من ولد سليط، وطمعه في جارية عمه عبد الله بن علي والأموال التي جمعها في حران، وكان أبو مسلم يعتذر عن كل تهمة ويبرر الأسباب التي دفعته لذلك، ولكنه لم يحتمل، وضاق بهذه التهم الصغيرة التي تتضاءل أمام كفاحه وجهوده في إقامة الدولة، فقال: يا أمير المؤمنين، مثلي لا يُقال له هذا، ولا يعدّد عليه مثل هذه الذنوب بعد بلائي وما كان مني. فأجابه المنصور: "يا ابن الخبيثة، والله لو كانت أمَة مكانك لأغنت، إنما عملت ما عملت في دولتنا ويريحنا، ولو كان ذلك إليك ما قطعت قتيلًا". فكبُر ذلك على أبي مسلم وانفجر قائلًا: دع هذا، فإني أصبحتُ لا أخاف إلا الله. فشتمه المنصور وصفّق بيده، فخرج الحرّاس من خلف الستار، وانقضّوا على أبي مسلم وضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولفّوه في بساط وألقوه في نهر دجلة، وكان ذلك يوم 25 شعبان سنة 137 هـ. وخرج الوزير أبو أيوب فصرف حاشية أبي مسلم بحجة أنه في قيلولة عند أمير المؤمنين، وأمر لهم بالجوائز فانصرفوا. 


وبذلك تخلّص الخليفة أبو جعفر المنصور من أبي مسلم الذي رأى فيه خطرًا كبيرًا على دولة بني عباس عامةً، وعلى حكمه بصفة خاصة.


المصادر:


- أبو مسلم الخراساني/ جرجي زيدام


- الدولة الإسلامية في العصر العباسي الأول د/أحمد الشامي


العهد نيوز - al3hd news
العهد نيوز - al3hd news
تعليقات